في خضم سُعار السلطة الذي أصابه، نسي اليميني المتطرف أنَّ شعبه يعيش وسط بحيرة بل بحر عميق من الكراهية صنعه بنفسه، وبمعاونة كل المتطرفين المتحالفين معه. ففي غمار الصراع على السلطة، لم يكن هناك فرصة لأي تيار مخالف يتواجد على الساحة، فقد صُدرت أوهام القوة التي لا تقهر للشعب الإسرائيلي، وأنها الضمانة الوحيدة لبقائه وأمنه، فانفرط عقد كل من كان يؤمن، ولو نسبياً، بالسلام والتعايش وقبول الآخر وولى عهد رابين وبيريز.

في المقابل، وبرحيل عرفات، ارتفع جدار الكراهية، واتخذت القضية منحى دينياً يمينياً متطرفاً، وتولت حماس وتفرعاتها السلطة فى غزة، وأصبحت القضية بين أيدي متطرفين على الجانبين لا يؤمنون بأي حلول وسطى. فما لا يدرك كله يترك كله، وإسرائيل بطائراتها ودباباتها وقوتها النووية تعتقد أنها في حماية القوة، وحماس بآياتها وشعاراتها تعتقد أنها فى حماية السماء، وفي الأحداث الأخيرة ثبت بما لا يدع مجالاً للشك كذب الطرفين، فبضع عشرات بأسلحة بدائية مرغوا وهم قوة إسرائيل الخارقة في الوحل، واقتحموا الأسوار العالية المكهربة المراقبة بالكاميرات وأسروا وقتلوا المئات ودخلوا البيوت وقتلوا ساكنيها بينما يغط الموساد والشين فين والجيش الإسرائيلي كله في نوم عميق، ولم يجد نتنياهو رداً إلا سُعار القوة وسفك الدماء، فقام بأبشع تدمير لمدينة بكاملها منذ الحرب العالمية الثانية، ودفن تحت أنقاضها أكثر من عشرة آلاف إنسان بدعوى الانتقام.

جرى أكبر مثال لسُعار القوة الذي سبق وأصاب أمماً كثيرة ظنَّت أن لا سقوط، وقد سقطت سقوطاً مدوياً مذلاً، والأمثلة كثيرة، ونحن أمام حالة فريدة من سُعار القوه وجنونها، ساعدها محيط جغرافي وديموجرافي مهلهل، وساعدها أيضاً دعم دولي مطلق وغير مشروط، وتعيش المنطقة كلها على حافة هاوية، والنتيجة لا شئ؛ كلٌ يدعي النصر والحقيقة أن أحداً لم يحقق نصراً، فإسرائيل بتدمير غزة عمقت بحر الكراهية وبدأ المجتمع الدولي يعارض بقوة هذه الإبادة الغاشمة التي لا يقبلها عقل ولا منطق، وحماس حصدت نفور الرأي العام الدولي كله بهذه الفعلة غير المحسوبة وغير المدروسة، بالاضافة إلى آلاف الضحايا الأبرياء وتدمير مدينة بكاملها تم تسويتها بالأرض.

والآن، وبينما ننقر حروف هذا الطرح، يتم تبادل الأسرى وإدخال بعض المساعدات، وربما يتوقف القتل إلى حين ويسدل الستار عن فصل جديد ومتكرر منذ خمس وسبعين عاماً، ليخمد بركان الكراهية قليلاً، ولا شك سيعود ليقذف حممه بعد قليل ويحصد أرواحاً بريئة، والمجتمع الدولي يقف عاجزاً مكتوف الأيدي، فقد تصدر المتطرفون المشهد، ووضعوا العراقيل أمام أي حلول تعيد السلام إلى هذه المنطقة المنكوبة من العالم.