في زمن الحرب، كان الحصول على إجازة أمرًا نادرًا. لكن بالنسبة لي، كانت إجازة اثنتين وسبعين ساعة فرصة للعودة إلى منزلي وزوجتي بعد غياب دام حوالى ستة أشهر.


كنت في الرابعة والعشرين من عمري، ومضى على زواجي ستة أشهر تقريباً، مكثت منها أسبوعاً فقط مع العروسة، ثم استدعيت للحرب. وأخيراً وبعد معاناة، حصلت على إجازة اثنتين وسبعين ساعة، أسافر فيها إلى أقصى جنوب البلاد فجر الأربعاء، وأعود صباح السبت إلى وحدتي.
غادرت صحراء غرب القاهرة في منتصف الليل حتى ألحق بقطار الفجر، لكنني وصلت محطة مصر في العاشرة صباحاً بعد مغامرات ركوب سيارات نقل الرمال والزلط. وبطبيعة الحال، فاتني قطار الفجر.

دخلت المحطة من ناحية شبرا، حيث القطار التالي يغادر من رصيف رقم تسعة. المدخل مكتظ بالجنود على غير العادة. هالني المنظر الذي لم أره في حياتي، وأعتقد أنني لن أراه ما حييت. لم يكن هناك أي أثر لمسافة فارغة بين أي شخصين، وهالني أكثر منظر رؤوس الجنود بأغطية الرأس (الكاكي) على امتداد الرصيف وكل الأرصفة المقابلة. أظنه كان موعد بدء أولى دفعات إجازات الجيوش الثلاث بعد وقف إطلاق النار.
أطلق القطار (الحربي) صفير الاقتراب ودخل إلى الرصيف متهادياً، وفوجئت بأنه قادم من المخزن محشو بالجنود. وقبل أن يتوقف، بدأ هجوم كاسح على الأبواب والنوافذ، وفي دقائق قليلة تم احتلال القطار. امتلأت الأسطح والنوافذ والأبواب وحتى الفواصل بين العربات كلها بأجساد محشورة.

بدا حلم اللقاء المنتظر بعد كل هذا الغياب مهدداً بالضياع. زاحمت بشق النفس لأصل إلى حافة الرصيف، يراودني أمل مراوغ للقاء أهفو إليه شوقاً بكل جوارحي. وبينما أصارع الأجساد محاولاً الاقتراب من أحد الأبواب، أطلق القطار صفير المغادرة وبدأ في التحرك. وكلما مرت أمامي عربة من عربات القطار، ضاع جزءاً مؤلماً من الأمل.
وعندما لمحت العربة الأخيرة قادمة، دارت بي الدنيا. فلأن لم أتمكن من ركوبها، ضاعت الإجازة التي هي عبارة عن (سواد الليل)، فعلى أن أتواجد في وحدتي صباح السبت. قررت المغامرة التي كادت تكلفني حياتي. قذفت حقيبتي من أول شباك عبر أمامي، وقررت القفز إلى القطار من الشباك التالي.

فعلت، وكدت أسقط بين القطار والرصيف. تشبثت بحرف الشباك بكل ما أوتيت من قوة، وبدأ الجنود في سحبّي إلى داخل العربة. سحبوني وألقوا بي إلى الطرقة بين الأجساد المحشورة. بالكاد لامست قدماي أرضية العربة. فقدت غطاء الرأس وكدت أفقد حياتي. لكنني تنفست الصعداء بعد أن تجدد أمل قضاء (سواد الليل) مع (العروسة).