منذ قرون عديدة نناديه، ولا نسمع سوى رجع أصواتنا، فقد قتلناه وهو قتلنا؛ قتلناه بحثاً، وقتلنا بحثاً عنه، لكننا لم نجده وأعتقد أننا لن نجده، لأننا لم نسأل أنفسنا يوماً هل نريده حقاً؟ لأن الفارق شاسع بين الرغبة في شيئ وإرادة الحصول عليه. الرغبة وحدها لا تضمن الوصول إلى هدف، لكن يتحتم اتحاد الرغبة بالإرادة، لأن اتحاداً مماثلاً هو الذي يولد القدرة على ابتكار الوسائل للوصول إلى الأهداف، فما بالنا إن كنا لا نريد هذا الشيئ ولا نرغب فيه أصلاً؟

سؤال آخر: هل هذه الأعراق في هذه المناطق التى تسودها هذه الثقافات يمكن حقاً أن تعيش في بيئة سلام، بما يفرضه ذلك من تبعات والتزامات؟ والسلام هنا يعنى الأمن والهدوء والسكينة والسلم والتنمية والتسامح والتصالح مع الخالق والتصالح مع النفس ومع الآخر، والتصالح حتى مع البيئة المحيطة من جماد ونبات وحيوان. والسلام هنا ليس حالة عابرة، وإنما يعني أسلوب حياة مستداماً ومستقراً وداعماً للرقي والتقدم، وداعماً للإسهام البشري في عمارة الكون. ولقد عاشت أمم كثيرة، في حقب من الاستثناء، حالات حروب وصراعات وتوترات، وما لبثت أن عادت إلى المسار الصحيح والطبيعي، لتعيش في الحالة الأصل وهي السلام، بعد أن توافرت حالة الرغبة الملحة في الحصول عليه والارادة الصادقة في الوصول إليه، وبعد أن استبانت الفروق بين أن تعيش الأمم متوترة وبين أن تعيش الأمم في سلام، ثم بعد ذلك شرعت هذه الأمم في إيجاد الوسائل الكفيلة بالحفاظ على هذا السلام وصيانته من عبث العابثين.

ولا يحل السلام أبداً في أرض أو في نفس مع وجود ظلم أو قهر أو عنصرية أو تمييز أو كراهية، وتظل الضمائر الحية قلقة معذبة مهما عقد من اتفاقيات أو مصالحات أو تكتيكات مرحلية، ويظل سلاماً مريضاً نهايته المحتومة مسألة وقت. والسلام ليس دائماً نقيض الحرب، فقد تعيش أمم ومجتمعات حالة عداء ذاتي، حروب دونما أعداء، لكنها طواحين هواء عملاقة تتراقص على مدار الساعة، وتتآكل المجتمعات من الداخل، وتتفشى فيها الأحقاد والكراهية والفساد وقشور العقائد، وتلك هي البيئة المثلى الحاضنة التى تفرز لهذه الشعوب حكاماً مستبدين، يسودون عليها بالتوارث أو الانقلابات، ولا يوجد أبداً أي إرهاصات للتمرد على هؤلاء الحكام، لسبب بسيط هو القاعدة الذهبية التي تقول إن كل شعب يستحق حكامه، فهم إنتاجه، وإنتاج بيوته ومدارسه وشوارعه وثقافته، أي المنتج النهائي الطبيعي لبيئة التوتر والعنف والكراهية والتعصب السائدة في تلك المجتمعات الفاقدة لمنحة السلام التي لا تستحقها.

وتنتشر في كل هذه المجتمعات فرق من المنظرين مهمتهم دق طبول الحرب على مدار الساعة، على الشاشات، والصفحات، ومكبرات الصوت، والمنابر، حتى تظل قلوب وعقول الناس على العهد حتى اليوم الأخير، تظل ممتلئة كراهية وحقداً على (العدو)، أي عدو، فإن لم يوجد عدو خارج الحدود فلا بأس من ابتداع عدو داخل الحدود، وإن لم يوجد فليعادي الناس أنفسهم، وان لم يستطيعوا فليحاربوا طواحين الهواء: المؤمرات الافتراضية والغزوات المتوقعة والعدو المتخفي المتوقع ظهوره في أي وقت وأي مكان، المهم أن يظل هناك دائماً عدو على الواجهة، حتى لا تفرغ حنايا القلوب من مخزون الكراهية المتراكم عبر السنين، لأن في ذلك خطر داهم.

اقرأ أيضاً: سُعار السلطة وسُعار القوة

والمتصوفة الذين يعتقدون أنهم قبضوا على لحظة حقيقة يفرون هاربين من عداوات الناس وحروبهم إلى الفيافي والقفار، بعيداً، خشية التشويش على سلام أرواحهم المنعكس على وجوههم هدوءاً وسكينة، لأنَّ السلام هو شعور ناضح من الأرواح على الوجوه والنفوس والأجساد وجوه باسمة ونفوس واثقة وأجساد صحيحة، أما العداوات فنتاجها معلوم: وجوه غضبى ونفوس قلقة وأجساد عليلة. وبهدوئه وسلام روحه قهر المهاتما غاندي إمبراطورية عظمى دونما تحريض على سفك الدماء، وبسلامه الداخلي وإيمانه بقدرة الإنسان على النصر، وحد نلسون مانديلا أعراقاً متباينة وصنع منها مجتمعاً متناغماً، بعد أن وجد السلام طريقه إلى الأرواح، وحل محل العداوات التاريخية التي كان لا بدَّ من دفنها إلى الأبد، حتى يتم التطلع إلى المستقبل.

والسلام هو البيئة الحاضنة للاحتفاء بالحياة وتقديسها، ونقيضه هو البيئة الحاضنة للاحتفاء بنقيضها الموت، وتكريس أساليب تمجيده. وفي بيئة السلام تنمو الثقة بين الأفراد والشعوب، وتجد المشاكل المعقدة حلولاً مبتكرة لم يكن يسيراً التوصل إليها في بيئة المشاحنات والتنابذ والعداوة، وكل المشاكل على هذا الكوكب هي نتاج الثقة المفقودة والعداوات الآنية والتاريخية التى يتم استدعاؤها باستمرار، كي تظل جذوة الصراعات والعداوات بين البشر مشتعلة على الدوام، وفي كل العصور ظلت الدعوة إليه (السلام) محفوفة بالمخاطر، بدءاً من وصم أصحاب تلك الدعوات بالانهزام وحتى تهديد حياتهم، فقتل غاندي وقتل لينكولن وقتل لوثر وسجن مانديلا، ودفع هؤلاء وغيرهم حياتهم ثمناً لرسالة سلام تبنوها في مجتمعاتهم، وظن من قتلوهم ومن سجنوهم أن رسالتهم ستموت أو تسجن معهم، لكن العكس حدث، حيث استقلت الهند وتحرر العبيد وانتصر الأفارقة على نظام الفصل العنصري.

اقرأ أيضاً: حرب الرقائق

وتنتشر في مجتمعاتنا ثقافة (الكمباوند) والأسوار المكهربة والأبواب المصفحة والمزاليج الطويلة وكاميرات المراقبة وأجهزة الإنذار، وكل تلك المظاهر هي مظاهر الخوف وعلامات فقدانه، فقدان السلام ومعه الأمان، ولا عجب إن بدأت الدول أيضاً بإقامة الأسوار على حدودها، ويغيب عن الجميع أن السلام لا توفره كل تلك الإمكانات التي تتوافر بالطبع للأغنياء فقط: الاغنياء الذين لا يسألون أنفسهم هل قاموا بواجبهم نحو الفقراء لتنكسر حدة الفوارق بين الناس، والتي تتناسب طردياً مع كم الكراهية المختزن في النفوس، الذي يتوالد وينمو كل يوم حتى يجيئ يوم الانفجار العظيم، ويأكل الناس لحوم بعضهم بعضاً، ولو كان الأغنياء قد قاموا بواجبهم نحو مجتمعاتهم ــ وهو واجب وليس هبة أو منحة ـ لما احتاجوا لكل هذه الأسوار العالية على بيوتهم، وكل هؤلاء الحراس المسلحين على شخوصهم.

ومن الغريب أننا لا نمل النداء عليه والتشدق به تحية عابرة ونحن نعرف أننا كاذبون، ومن ثم يعود إلينا النداء كرجع صوت، رجع صوت متهكم على ندائنا المزور، رجع صوت لنداء كاذب خال من الرغبة والارادة، رجع صوت متبوع بصف طويل من علامات التعجب: يا سلام!!!!!