تحذير: يأتي هذا المقال على ذكر تفاصيل ذات صلة بالموت قد يعتبرها بعض القراء مزعجة
شاركت في الحرب الإيرانية ـ العراقية التي فرضها الخميني عنوة على العراق من خلال الأجواء التي هيَّأها بغرض التدخل في الشأن الداخلي العراقي. وقبل وقوعي في الأسر تسنى لي، وأيضاً للکثيرين غيري ممن شارکوا في تلك الحرب، مشاهدة مناظر في غاية الفظاعة والدموية البالغة، وهي مشاهد لم تفارق ذاکرتي حتى الآن، وما زالت تطاردني مثل الکوابيس في أحلامي؛ في تلك الحرب، وفي جبهة المواجهة التي کنت فيها بالقرب من مدينة الخفاجية أو سوسنکرد کما في إيران، حيث کنا نرابط على نهر الکرخة، عشت الموت لثوان.
وقد يستغرب البعض قولي "عشت الموت"، ذلك إنهما نقيضان، ولکن ذلك ما حدث بالضبط، إذ في يوم 27 تموز (يوليو) 1981، تعرضنا لهجوم إيراني أجبر وحدتنا العسکرية على التراجع والانسحاب، وحدث هرج ومرج کما هو متوقع من أي إنسحاب عبثي غير متسم بالانضباط، فبدأ أفراد وحدتنا والوحدات الأخرى التي کانت ترابط على ميمتنا وميسرتنا بترك مواقعها والانسحاب إلى المواقع الخلفية لقطعات الجيش العراقي. وبعد ترکنا مواقعنا على نهر الکرخة، لم يکن خلفنا إلا أرض جرداء قاحلة، وکانت درجة الحرارة تقارب الخمسين درجة مئوية، وكانت تنهمر علينا قذائف القصف المدفعي الإيراني، والانفلاقات الجوية من جراء تفجير القنابل والصواريخ فوق رؤوسنا ونحن ننسحب، إضافة لرشقات BKC والدوشکا وغيرها، وقد تسنى لي رؤية أفظع مشهد دموي في حياتي کلها، عندما شاهدت بأم العين جندياً يرکض أمامي على بعد بضعة أمتار، وفجأة أصابته شظية صاروخ فصلت رأسه عن جسده، لکنه ظل يرکض مسافة قصيرة نسبياً من دون رأس، قبل أن يسقط أرضاً.
إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر خامنئي؟
بالرغم من الظمأ الشديد الذي کنت أعاني منه، ولکني خوفاً ورهبة من الموت الذي کان يخيم علينا وکنا في انتظاره في کل لحظة، خصوصاً أن الجنود کانوا يتساقطون هنا وهناك، واصلت الركض بکل طاقتي غير مکترث، وکان هناك جندي من وحدتي يرکض الى جانبي، وأشار علي بأن نذهب إلى أحد مواضع الدبابات الخالية ونحتمي بساتره من الجحيم الذي يطبق علينا من کل جانب، وما أن دخلنا الموضع حتى ضربت قنبلة داخل الموضع، ووجدت نفسي مرتفعاً في الهواء، وفي تلك اللحظات التي لم أشعر کم استغرقت تحديداً، شاهدت بأم عيني حياتي کلها من البداية إلى تلك اللحظة وکأنها شريط سينمائي!
إقرأ أيضاً: سرطان ولاية الفقيه
وقعت على ساتر الدبابة، وظننت أنني قد مت! لکن ما أن سمعت الجندي الذي کان يرافقني وهو يناديني: هل أنت بخير؟ هل تسمعني؟ حتى أجبته أني لا زلت أتصور بأنني ميت، فجاء مسرعاً ولامس جسدي بسرعة وهو يقول: لاتخف، مجرد جروح سطحية بسيطة ولن تموت! والحق أني شعرت في تلك اللحظة بأنه يشجعني لأقاوم الموت الذي شعرت بعد أن عشته، بأنني ملاقيه!
الحق أنني، في ذلك اليوم الرهيب الذي لن أنساه ماحييت، عشت الموت للحظات وأنا طائر في الهواء، حيث شعرت بأن جسدي کقشة، وأنني أغادر الحياة إلى غير رجعة، وقد هيمنت تلك اللحظات وما زالت تهيمن على تفکيري، ودائماً ما أجد نفسي أقول إنَّ مواجهة الموت غير التحدث عنه، ومهما سعى المرء لوصف الموت، فإنه لن ولا يکون أبداً کما وهو يعيشه!
التعليقات