أدرج صندوق النقد الدولي مؤخراً تونس ضمن قائمة "سلبية" تضم دولاً مثل فنزويلا واليمن وبيلاروسيا وتشاد وهايتي وميانمار، وهي دول تأخرت أكثر من 18 شهراً عن إنهاء مشاورات المادة الرابعة، وهي مشاورات سنوية لخبراء المؤسسة مع االسلطات النقدية والمالية للدول الأعضاء، هدفها التعرف على أهم التطورات الاقتصادية والتحديات والمخاطر المحتملة وكيفية مواجهتها. وبالنسبة إلى تونس، يفيد آخر بيان للصندوق أنَّ المشاورات التي كان من المفترض إنهاؤها في 17 شباط (فبراير) 2022 كي تحصل تونس على "التسهيلات الموسعة للصندوق" بمبلغ 1.9 مليار دولار، لمدة أربع سنوات، قد تم تأجيلها لأجل غير محدد.
وكما هو معروف، تعيش البلاد أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة نتيجة حالة الفوضى وعدم الخبرة منذ سقوط النظام القديم في بداية 2011، مما أدى إلى هروب رؤوس الأموال وانهيار مصادر العملة الصعبة، وأهمها الصناعات التصديرية والسياحة وتحويلات المواطنين بالخارج. وعلى هذا الأساس، انكمش النمو الاقتصادي السنوي من حوالى 5 بالمئة خلال عهد زين العابدين بن علي إلى 1 – 2 بالمئة منذ الثورة، وهي نسبة تكاد تغطي زيادة السكان، مما يعني ركود معدل دخل الفرد ومستوى عيش المواطن. بل إنَّ شرائح واسعة من المجتمع شهدت تآكل قدرتها الشرائية نتيجة زيادة الأسعار بنسب تقارب 10 بالمئة سنوياً (مقارنة بأقل من 5 بالمئة في عهد بن علي).
ومن الاخطاء الفادحة التي ارتكبتها حكومات ما بعد الثورة: (1) فوضى الاضرابات العمالية التي أضرت بالإنتاج والصادرات، والتي ساهم فيها كل من الخطاب الشعبوي للسلطات واتحاد العمال، (2) الزيادة المفرطة في عدد موظفي القطاع العام بدعوى تعويض ضحايا النظام السابق، بينما كان من الأجدى تقديم تعويضات مالية لهم، و(3) الزيادة المفرطة في الدين الخارجي الذي مول الالتزامات المالية للحكومة، بما في ذلك دفع أجور العمالة الجديدة في القطاع العام.
أدت هذه السياسة غير المسؤولة إلى الإفراط في الدين الخارجي، الذي ارتفع من 47.8 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي في 2010 إلى 94.6 بالمئة في 2021، وهو يعادل حالياً حوالى 100 بالمئة، وهي نسبة مرتفعة تخل بالتوازن الاقتصادي وتجعل من دفع المستحقات السنوية للدين أمراً صعباً. وحسب بيانات المصرف المركزي، قفزت مستحقات الدين الخارجي لتونس إلى 8.9 مليار دينار (حوالى 3 مليار دولار) في 2023، وهو مبلغ حصلت عليه الحكومة بصعوبة كبيرة، وسوف يكون من الأصعب تلافي أزمة في هذا الشأن في السنة الحالية والسنوات المقبلة، مما أدى بوكالة التصنيف الائتماني "فيتش" إلى تخفيض تصنيف تونس من "سي سي سي إيجابي" إلى "سي سي سي سالب"، وهي رتبة تؤشر إلى حالة إفلاس متوقعة.
إقرأ أيضاً: شناعة المُندَلق
وجاء في بيان "فيتش" أن الانكشاف على القطاع العام يمثل ما يزيد على 20 بالمئة من إجمالي أصول النظام المصرفي، ويصل إلى 40 بالمئة في بعض البنوك الحكومية، كما أن تمويل الحكومة يعتمد بشكل متزايد على مشتريات البنك المركزي من الديون الحكومية في السوق الثانوية. وانتهى الأمر مؤخراً إلى التمويل المباشر للحكومة بقيمة 7 مليار دينار.
أما معضلة تونس مع صندوق النقد الدولي فهي تتمثل في رفض الحكومة التونسية الشروط الخاصة بالسيطرة على أجور القطاع العام والحد من دعم أسعار المواد الأساسية مثل الخبز والبنزين، ودعم شركات القطاع العام التي تعاني عجزاً مالياً يتم تغطيته من الموازنة العامة للدولة. ونتيجة التناقض الكبير بين شروط الصندوق وسياسة الدولة، فقد نفضت الحكومة يدها من هذه المسألة وتم فعلياً تعطيل التعامل مع المؤسسة المالية العالمية.
إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط
من المهم التنويه بأن رفض توصيات المؤسسات المالية العالمية ليس بالخطيئة الكبرى، شرط توفر البدائل الملائمة. ففي خمسينيَّات القرن الماضي، رفضت كوريا الجنوبية توصية البنك الدولي بالتركيز على الزراعة، وعملت على التحول إلى قوة صناعية بدل ذلك. كما رفضت ماليزيا في أزمة 1997 توصيات صندوق النقد الدولي عندما لجأت إلى الرقابة على تحويلات رؤوس الأموال خارج الدولة، مما سمح بالاستقرار التدريجي لسعر صرف العملة وعودة النمو الاقتصادي على أسس سليمة.
وفي تقديري، لا بدَّ من وضع حد لضبابية الوضع الحالي، أي الاعلان بصفة واضحة عن وقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي حول برنامج "التسهيلات الموسعة للصندوق" وإعداد استراتيجية بديلة تساهم فيها الخبرات الوطنية والأجنبية، ويتم التفاهم حولها ضمن حوار وطني موسع.
التعليقات