فرض موضوع "احتكار الحليب" في تونس نفسه خلال الأيّام القليلة الماضيّة، بعدما تعمّد بعض رواد موقع فيسبوك نشر صورة لعلبة حليب "مكفّنة" بالورق الأبيض، متباهين بقدرتهم على الحصول على هذه المادة الاستهلاكيّة الشّحيحة في الأسواق التونسيّة، جراء ما تعيشه البلاد من أزمات اجتماعية وسياسية متوالدة، جنباً إلى جنب مع العوامل المناخيّة والبيئيّة القاسيّة والسياسات التغولية لبعض التجار والمحتكرين.

ليس هذا غريباً على أي حال، فحجب المواد الاستهلاكية النادرة عن العموم، لا يمثل ظاهرة استثنائية في المجتمع التونسي، وهناك ظواهر مشابهة داخل المجتمعات على اختلاف ثقافاتها، إلا أنَّ صورة الحليب في حدّ ذاتها، تُعتبر تذكاراً مؤلماً، لمدى قسوة السلوك الاحتكاري على الصغار قبل الكبار، ومن شأنه أن يترك أثراً غائراً على أجيال بأكملها، ليس على المستوى الصحي فحسب، بل وأيضاً عبر نشر "العدوى الاجتماعيّة"، التي تكسب الأفكار والأفعال الاحتكارية زخماً سلوكيّاً يجعلها مألوفة ومقبولة اجتماعياً.

من شأن تبني الممارسات الاحتكارية داخل الأوساط الأسرية والاجتماعية، والترويج لها عبر منصات التواصل الاجتماعي، أن يجعلها تبدو، وكأنها ميزة استحقاقية وتفاضلية، أو فكرة مباحة أخلاقياً وعقلانياً.

الناس يميلون في الغالب إلى تبني الأفعال والأفكار التي تكررت أمامهم كثيراً، بغض النّظر عما إذا كانت أخلاقية أم لا، وربما يعمدون إلى التباهي بالاحتكار، ويعتبرونه رمزاً للذكاء والكفاءة في العمل، وقد يتبنونه كأمر استراتيجي في مجالات معينة، ومن ثمة يحوّلون تلك الأفكار إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع، بالرغم من أنها تمثل وهماً خطيراً في الوقت نفسه أيضاً.


"تكفين الحليب" في صور متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي

يبدو، السبب في تحول سلوك الاحتكار إلى خيار مقبول ومباح اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً - بالرغم من أنه ميزة غير عادلة - هو الزخم الاجتماعي لتلك الممارسات، وهذا الأمر يُظهر شيئاً في غاية الأهمية، يتعلق بالطريقة التي يقوم من خلالها البشر بتحديث معتقداتهم وأفكارهم وتغيير قيمهم، التي يؤمنون بها.

الاحتكار بات أكثر انتشاراً في المجتمعات الحديثة بسبب السلوكيات الأنانية والتمحور حول الذات، بالرغم من أنه يتناقض مع الأعراف الدينية والقيم الأخلاقية، ويقوض المؤسسات الديمقراطية، ويسهم في نشوب الاضطرابات الاجتماعيّة، وقد ينخر أسس المؤسسات الديمقراطية، ممّا يحرّف سيادة القانون عن مقاصدها، ويؤدي إلى ظهور مستنقعات بيروقراطية يصعب تجفيفها.

كما أنَّ بوسع أساليب الاحتكار، أن تفتح الباب أمام إساءة استغلال السلطة، والانخراط في ممارسات الفساد ذات المصالح الشخصية.

لكن، إذا كان الاحتكار يؤثر على ما نؤمن به من قيم أخلاقية، فنحن أمام مأزق أخلاقي كبير! ربما يقول البعض إنَّ الأمر ليس بهذه السهولة. فبإمكاننا كبشر أن نحتكم إلى قوانا العقلية، لكنهم يحتاجون أيضاً إلى التحلي بالتواضع، والاعتراف بأنَّ قواهم العقلية محدودة الإمكانات أمام بريق المغريات.

إقرأ أيضاً: رجل أمن أم خبير عيون!

عقولنا كبشر، ضحية لتأثير "وهم" المحتكرين، لأننا نميل غريزياً إلى استخدام طرق عاطفية مختصرة للحكم على الأفعال والأقوال من ظاهرها. وربما لو عرفنا المزيد عن مدى تأثير وهم المحتكرين على عقولنا، فإنه بإمكاننا وقتها حماية أنفسنا منهم. ويكمن جزء من تلك الحماية في رفض "تكفين" الحليب، والدفاع عن حق الجميع في الحصول على أنصبة متساوية من المواد الاستهلاكية النادرة في مجتمعاتنا.

بيد أنَّ جانباً من الحماية، يكمن في الالتزام بمبادئنا الأخلاقية. فنحن نعيش في عالم تتبوأ فيه العدالة الاجتماعيّة والمساواة مكانة مهمة، وينبغي أن تكون تلك القيم مهمّة بالفعل بالنسبة إلينا.

لكن يبقى السؤال؛ هل منحكم "تكفين" الحليب ميزة تفاضلية؟ الإجابة لا على الأرجح. لكنّني لست هنا لمحاسبتكم، بل لتذكيركم أن "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ".