سرقة الأسرار إحدى انشغالات الوجود منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا، بعد أن تنوعت أساليبها وتوزعت بين اهتمامات الأفراد والدول حتى صارت أسرار الدولة إحدى أهم عناصر قوتها. البطل السومري جلجامش أمضى نصف حياته يبحث عن سر البقاء بعد رحيل صديقه أنكيدو، وحين عثر على نبات سر الخلود في عمق البحر... سرقته منه الأفعى واختفت في البحر.

يسرقون حياة البشر في تجارب نووية وفايروسية، ويسرقون الحريات باسم الأديان والأخلاق، ويسرقون الأحلام من عيون العشاق، يحيلون الفولاذ إلى قضبان للسجون وقيوداً للأحرار لكي يسرقوا الحرية والكلمة المضيئة!

المطر وحده بقي عصياً على السرقة، لأنه ينام بحضن الغيوم. حاول الرسام الهولندي فان كوخ أن يضيّفه في لوحاته، كان يلاحق السحب ينادي عليها يغازلها ثم يُضيّفها في لوحاته المتحدرة من حقول الفقراء والجائعين إلى قصور الأمراء والملوك.

وحده بدر شاكر السياب استطاع أن يأتي بالمطر من أحضان الغيوم إلى غابات نخيل البصرة في ساعات السحر، جعل من المطر أنشودة تنتشر بين الحالمين والجائعين وإيقاع يمتزج فيه نشيج الحزانى على شواطئ الخليج، تلك أنشودة خالدة مابقي المطر.

أغرب ما اطلعت عليه مؤخراً تقرير إعلامي على موقع قناة العربية، يتحدث عما يدور من شكوك تراود الإيرانيين بخصوص سرقة الأمطار والغيوم والثلوج من سماء إيران، واتهام تركيا بهذه السرقة التي تزايدت فيها الأمطار وتساقط الثلوج، بينما تشهد سماء إيران صحواً وأرضها مقفرة بلا مطر!؟

هل يمكن سرقة السحب؟ هذا السؤال الظريف الذي لا يخلو من دلالات تبدأ بالمناخ وتمتد إلى تخوم الجغرافيا السياسية، اعتمده التقرير المذكور، وهنا يسوق جملة من المعلومات ذات الطابع العلمي ولا يخلو من مسحات سياسية ورؤى تقارب الخيال.

يقول التقرير: {"في علم البيئة والأرصاد الجوية لا يوجد شيء اسمه 'سرقة الغيوم'، بالرغم من أنَّ المصطلح تردد كثيراً، وهو ما تؤكده عدة تقارير لوسائل إعلام غربية، بينها 'نيويورك تايمز'".

وتوضح مجلة "فوربس" أن "سرقة السحب" هو مصطلح يشير إلى الاعتقاد أو الاتهام بأن الدول تستخدم التكنولوجيا للتلاعب بأنماط الطقس لتحويل السحب الممطرة بعيدا عن منطقة معينة.

وفيما يتعلق بالاتهامات الموجهة لتركيا يقول كاوه مدني، مدير معهد الأمم المتحدة للمياه والبيئة والصحة إن الصور التي تقارن السماء في تركيا وفي إيران "تنتمي إلى لحظة محددة من الزمن".

ويضيف للمجلة الأميركية أنه "تم اختيارها عمداً أو بسذاجة للترويج لرواية ليس لها أي أساس علمي"}.

إقرأ أيضاً: أكيتو... وأحزان القدس!

ثم يذهب التقرير لسرد تفاصيل أفكار تقترب من الخيال بالرغم من توطينها في صميم التجارب العلمية، وهي انخراط عدد من الدول في برنامج يسمى "تلقيح السحب" مثل المغرب وأثيوبيا والسعودية ودول أخرى في شمال أفريقيا".

نحن أبناء مدن النخيل في العراق والسعودية ومصر نفهم أن التلقيح يحدث للنخيل حين يبدأ الطلع عند ذكر النخيل وتتولى رياح الربيع نقل بذاره نحو الطلع المتفتح عند إناث النخيل المنتشرة في البساتين، هكذا كانت تعضد الطبيعة نخيلها، لكن مع معرفة الإنسان بدور لقاح النخيل صار هو من يقوم بهذه المهمة فيركب النخلة ويضع بذور طلع الذكر في أجنّة عذوق الرطب فتنمو ويكون الصيف موعدا لنضوج الرطب. لكن كيف يتم تلقيح السُحب وماهي بذور التلقيح؟

يذكر التقرير ما يلي: "عملية التلقيح تقوم على 'زرع السحب' للحث على هطول الأمطار عن طريق حقن جزيئات الملح أو يوديد الفضة فيها، عبر الطائرات أو الصواريخ أو أجهزة نشر الدخان الأرضية".

ويضيف.. أنه بين حزيران (يونيو) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2022 أفادت التقارير أن عملية "بذر السحب" التي نفذتها 241 رحلة جوية و15 ألف صاروخ أطلقت تسببت في "8.56 مليار طن متري من الأمطار الإضافية" في حوض نهر اليانغتسي في الصين، ولا تعتبر الصين الدولة الوحيدة التي ترغب في استغلال السحب لصالحها. بل هناك الولايات المتحدة الأميركية والإمارات وروسيا والسعودية وجنوب أفريقيا وتايلاند والمكسيك.

إقرأ أيضاً: العراق: أميركا تزرع وإيران تحصد!

ومن أشهر الأحداث التي شهدت تلقيح السحب نفذتها الصين خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2022 للتحكم في الأحوال الجوية، وقيام رجال الإطفاء الروس أيضاً بزراعة السحب لإسقاط الأمطار على حرائق الغابات عام 2020 في سيبيريا.

وتوضح صحيفة "نيويورك تايمز" بهذا الصدد، أن عملية التلقيح بدأت في عام 1947، حيث عمل علماء شركة جنرال إلكتريك بموجب عقد عسكري لإيجاد طريقة لإزالة الجليد من الطائرات في الطقس البارد وخلق ضباب لإخفاء تحركات القوات.

كم من الأسرار في هذا العالم الذي صار يصنع من الخيال حقائق نافعة ويضع الفضاء إلى جانب الأرض في خدمة أهدافه في مشروع التطور، ونحن ما زلنا نردد أنشودة المطر لتعبر فيها عن أعماق دورة الحلم والحياة.