ترتفع ترانيم النداء "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة". تحتفل غالبية شعوب الأرض بأعياد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية، ولعلها مناسبة أن نتجول بفضاء ذاكرة تاريخ الإنسان ومجراته الزمنية المتنوعة، وكيف لهذا الإنسان أن يصنع رموز ودلالات حياته المتنوعة والمتضادة من مواسم للفرح وأخرى للأحزان لكي تستمر الحياة بتوازن.

ابتكر الإنسان الأول في بلاد الرافدين عيد "أكيتو"، عيد الخصب والنماء والدفء، الذي تأتي به الشمس مطلع شهر نيسان (أبريل). أكيتو عيد ميلاد بداية رأس السنة الجديدة عند السومريين ومبايعة الإله "دموزي"، إله الخصب والعطاء والربيع، الذي يظهر بعد موت يستمر لعدة شهور، فكانت تقام الأفراح والأناشيد له وللربيع لأثني عشر يوماً.

أكيتو أول عيد في التاريخ البشري كان السومريون يقيمون طقوسهم الاحتفالية والدينية فيه قبل خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، كما تشير المصادر التاريخيَّة. واستمر الاحتفال به عند البابليين والآشوريين، وعقب تعدد الأزمنة حتى يومنا هذا، تحول عيد أكيتو في 21 آذار (مارس) لدى العديد من الأقوام مثل الفرس والكرد والاتراك والأفغان وغيرهم، أو بقي في موعده الأول من نيسان عند أقوام أخرى بتسميات متعددة.

مع نزول الأديان السماوية إلى البشر على الأرض، استثمرت هذه الأعياد ونظمتها وأعطتها مراسم وألحان خاصة بها، وبطابع ديني، ومنها عيد الصوم وعيد الحج وعيد المضال وغيرها مما كان سائداً في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ثم أحلت بديلاً عنها عيد الفطر وعيد الأضحى، وبقي عيد أكيتو عيداً لرأس السنة الجديدة.

المواطن العربي يجد مسرته في ذكريات الأعياد أيام طفولته لأنها مسرات بلا حدود وفرح طافح باللهو والصحبة البريئة وانتفاء التفكير بالتزامات الحياة والمعيشة والخوف من المستقبل، تلك المساحة الوحيدة التي يتمنى المواطن العربي الإقامة فيها أطول زمن من عمره، قبل دخوله عالم الرجال والانهماك بكآبة الأيام وازدياد القلق وهموم الحياة والتفكير بمسؤولياتها والمخاطر التي تحدق بالوجود، الأمر الذي يجعل الأعياد العربية شعائر تقليدية وواجباً اجتماعياً وليس موسماً للفرح وتحقيق الأحلام المؤجلة.

عيد رأس السنة الميلادية الذي تحتفل به غالبية شعوب الأرض تزدان فيه المدن بشجرة الميلاد المضاءة وانطلاق الألعاب النارية بصورها المدهشة، وتتحول الكرة الأرضية إلى ملعب أولمپي بسعة الأرض، تستعرض في فضاءاته دول العالم ابتكارات خيالها الجمالي في صناعة صور وأشكال ضوئية في مشاهد الألعاب التي يأتي انطلاقها مع اللحظات الأولى للسنة الجديدة وسط احتفالات شعبية حاشدة ومبتهجة بقدوم الزائر الذي يضيف سنة جديدة لعمر الإنسان والكون معاً، عندها تُرفع الأنخاب وتتردد الأمنيات وينطلق الحب نحو أقصاه.

احتفالات تسود أجزاء الأرض السعيدة، بينما تعيش كنائس وشعوب الشرق عزلة حزينة وليلة مؤرقة بسبب جرائم إسرائيل في فلسطين أرض السلام التي أحالها التعصب الصهيوني إلى أرض دماء ومقابر، أما بيت لحم، مهد السيد المسيح عليه السلام، فتمنع فيه النجمعات والطقوس وشعائر الأعياد، إسرائيل تصادر الأعياد والمسرات والسلام من أرض السلام وأهل المحبة من المسيحيين والإسلام العزل، وتقدم في هذا الطقس السيء أعداداً جديدة من القتلى والمشردين، فيرجع النداء "خلّص شعبك يا يسوع"!؟

بداية كل سنة جديدة، يتسع الجُرح العربي ويزداد نزيفاً في السودان واليمن وليبيا ولبنان وفلسطين والعراق وسوريا؛ تراكم سلبي هائل من الآلام تستمر بصناعتها الأنظمة الفاسدة والإسلام السياسي إلى جانب إسرائيل، أحداث تستلب منك أي شعور يراودك بالفرح أو فكرة العيد.