ما الذي دفع جنوب أفريقيا، الدولة التي يعتنق 80 بالمئة من سكانها المسيحية، للوقوف قولاً وفعلاً مع فلسطين ضد المجازر الصهيونية في غزة وفي كل ربوع فلسطين المحتلة؟

ولا أدلّ من موقف جنوب أفريقيا الأخير العملي في "جرجرة" إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية بتهم القيام بمجازر وإبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني... الجريمة الوحيدة في تاريخ الشعوب الكاملة الأركان والدلائل ببث مباشر أمام العالم!

الدافع الجنوب أفريقي علاوة على أنه واجب أخلاقي وإنساني، فهو مستمد قطعاً من إرث مانديلا، الذي يترادف اسمه وإرثه في الثورة ضد الاستبداد وبذل الغالي والنفيس في سبيل الحرية والكرامة والأرض والعرض.

وأسئلة هنا أحاول أنا وعبر "رأس مال الكاتب" وهو وعي القارئ أن نجيب عليها وأولها، هل خطوة جنوب أفريقيا هي الأولى في رفع قضية ضد دولة أخرى (يثقل على لساني أن أصف إسرائيل بالدولة، وقاتل الله السياق!)؟ وما مبرر جنوب أفريقيا القانوني الذي سمح لها برفع قضية نيابة عن فلسطين ضد إسرائيل، وهي لا ناقة لها وجمل في الموضوع؟ يعني بالدارج العربي ما الذي جمع الشامي على الجنوب أفريقي؟ وآخر الأسئلة، ما هو سيناريو المحاكمة المتوقع؟ وما مدى نجاعة المحاكمة وقرارها؟

إقرأ أيضاً: استعدوا.. الغزو الفضائي قادم!

أما كون خطوة جنوب أفريقيا هي الأولى من نوعها، فلا، وقد سبقتها قبل أعوام قليلة وتحديداً في عام 2019، ومن أفريقيا أيضاً، جمهورية غامبيا، عندما رفعت قضية في محكمة العدل الدولية، ضد قادة الإنقلاب العسكري والجيش في ميانمار، بارتكاب مجازر وإبادة جماعية ضد أقلية الروهينغا المسلمة، وهي القضية التي وافقت لنظرها محكمة العدل في عام 2021.

والإجابة على التساؤل الثاني، المتمثل في المبرر القانوني لجنوب أفريقيا اليوم لرفع قضية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بلاهاي، فهو نفس مبرر غامبيا بالأمس، المتمثل في الحق الوارد في القانون الدولي الذي يعرف بـ "بالنيابة عن الكل – Erga omnes"، والذي يعطي دولة ما بمفردها الحق في رفع قضية نيابة عن المجتمع الدولي ضد دولة أخرى أدينت بارتكاب إبادة جماعية، وذلك بحسب "اتفاقية منع الإبادة الجماعية" التي أقرتها الأمم المتحدة في عام 1948. ومفارقة هنا لا بدّ من ذكرها وهي أنَّ مفردة "الإبادة الجماعية" قبل أن تصاغ، كان يطلق عليها ونستون تشرشل "جريمة بدون اسم"!... هذه المفردة صاغها محامٍ بولندي يهودي يدعي "رافائيل ليمكن"، بعد فراره من أحد معتقلات الإبادة النازية، ورافائيل نفسه من استنهض بعدها العالم والأمم المتحدة لإقرار اتفاقية منع الإبادة الجماعية، ومات – في عام 1959- وفي قلبه غصة من أميركا – التي عاش ومات بها لاجئاً - التي رفضت رفضاً قاطعاً مقترحه أو حتى الاستماع إليه، وطبعاً تحفظ أميركا حينها نبع من تخوفها من الملاحقة القانونية سواء في ما يتعلق بالمجازر والإبادة الجماعية التي نفذتها ضد سكان أميركا الأصليِّين (الهنود الحمر)، أو ما تزامن من بطشها بأقلية السود وحرمانها من حقوقها المدنيَّة.

إقرأ أيضاً: إسرائيل والعدالة الدولية

وأصل الآن إلى "زبدة" التساؤلات، ما هو سيناريو المحاكمة المتوقع؟ وما مدى نجاعة المحاكمة وقرارها؟

لنفترض جدلاً أنَّ محكمة العدل حكمت بإدانة اسرائيل بجريمة الإبادة الجماعي (وهي المحاكمة التي أتوقع أن تطول قبل إصدار قرارها)، فأول قرار ستتخذه سيتمثل في إصدارها قراراً يقضي بوقف عمليات الإبادة فوراً (وهو القرار نفسه الذي اتخذته ضد عسكر ميانمار في القضية التي رفعتها غامبيا المذكورة آنفاً). ليتبادر هنا السؤال، هل ستلتزم إسرائيل بقرار الوقف هذا؟ والاحتمال هنا الذي في حجم اليقين أنَّ إسرائيل لن تلتزم بهذا القرار. فإجرائياً بعدها ستتخذ محكمة العدل إجراءات نقل القرار لمجلس الأمن للتصويت عليه لإيقاف الحرب. وحينها ستتجه أنظار العالم للدول الداعمة لإسرائيل داخل مجلس الأمن، وهي أميركا وبريطانيا وفرنسا. لكن تصويت هذه الدول حينها بحق النقض (الفيتو) فيما يتعلق بقرار وقف الإبادة والحرب، سيعني قانونياً أنَّ دول الفيتو مشاركة بجريمة الإبادة، وسيضعها أمام حرج دولي كبير، وخصوصاً أمام الرأي العام العالمي بما فيها شعوب هذه الدول المعارضة لـ"مسوغ" شنّ إسرائيل للحرب في غزة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وإبادة الشعب الفلسطيني. كذلك سيعني قرار إصدار إدانة لإسرائيل بإرتكاب مجازر وإبادة جماعية دحض وإبطال حجة الدول التي دعمت مسوغ إسرائيل الأوهى من بيت العنكبوت وهو " الدفاع عن النفس". وسيترتب على ذلك اعتبار الدول التي ستدعم إسرائيل بعد القرار عسكرياً سواء عبر تقديم الأسلحة أو المرتزقة، فسيعني ذلك قانونياً أنَّها مشاركة في جرائم حرب وإبادة.

إقرأ أيضاً: أكيتو... وأحزان القدس!

لذلك، فإنَّ إصدار قرار مقنن دولياً بإدانة إسرائيل، سيكون بمثابة سابقة تاريخية "ألفية" معاصرة وستضع إسرائيل في قائمة الدول المرتكبة للإبادات الجماعية بجانب ألمانيا النازية "حصان طروادة" الذي أدخل الصهاينة لفلسطين، وأكسبهم تعاطف أوروبا بالدرجة الأولى وأميركا. وبالحديث عن التعاطف الأوروبي، أعلنت ألمانيا بالأمس وقوفها بالكامل مع إسرائيل خلال مداولات القضية. هذا الموقف يذكرني بطرفة لعل فيها تخفيفاً للقارئ من جو المقال "التقريري". في عام 1988، أقامت ألمانيا بحضور الرئيس الأميركي حينها رونالد ريغان، فعالية "حداد" في أحد مقابر ألمانيا التي تضم ضحايا يهوداً في معتقلات الإبادة النازية، لتكشف بعدها وسائل إعلام ألمانية ودولية أنَّ هذه المقبرة تحديداً، وأغلب القبور التي وقف عليها ريغان والحاضرون، هي قبور تعود لجنود نازيين شاركوا في إبادة اليهود في المعتقلات النازيَّة! ولعل في هذه "الطرفة" أبلغ إسقاط على ألمانيا اليوم، التي تصطف بجنب الجزار الصهيوني ضد ضحايا "هولوكوست" فلسطين.

إقرأ أيضاً: مقال لأكثر من مليون!

وقبل الختام، وعودة لتداعيات فيما إذا صدر قرار إدانة إسرائيل، فإن شعبها ووفقاً للقانون سيتحول من أقلية تعرضت لعمليات إبادة فيما مضى إلى شعب ارتكب ويرتكب إبادة جماعية بحق شعب آخر. كما سيفتح طريق الإدانة إمكانية جرجرة قادة إسرائيل كبنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت لمحاكمتهم في المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب، وبجانبهم أيضاً مثل وزير المالية الإسرائيلي الذي دعا علناً لارتكاب إبادة جماعية، عبر إلقاء قنبلة نوويَّة على غزة.

ختاماً، جنوب أفريقيا التي تقع جغرافياً في أسفل خريطة العالم، لم تعد "جنوباً"، بل على رأس قمة الإنسانية والاصطفاف مع الشعوب المضطهدة، وأعطت للعالم بقرارها الشجاع درساً مهماً عظيماً اليوم، مفاده أنَّ "العولمة" يجب أن تجعل من العالم "قرية صغيرة" إنسانية قبل المال والأعمال... ومن هنا كان العنوان... بلاد العرب أوطاني.. من الشامِ لكيب تاونِ!