هناك بيت شعر للشاعر العراقي الكوردي الأصل معروف الرصافي يقول فيه:

"لا يخدعنك هتاف القوم بالوطن فالقوم في السر غير القوم في العلن"

هذه القصيدة نظمت في العهد الملكي قبل أكثر من سبعة عقود، وهو ما يشير إلى أنَّ المجتمع السياسي العراقي يعاني هذه الظاهرة منذ القدم، حتى زرعت في جينات الشارع العراقي الذي يولد من رحمه ساسة يدعون الوطنية وهم أبعد ما يكونون عنها، فتحولت إلى آفة نتمنى أن يتعافى منها وألا تبتلى بها شعوب أخرى.

خروج القوات الأميركية أو بقاؤها في العراق يعتبر موضوعاً جديداً قديماً... فلقد أثير عام 2007 وضغطت الحكومة العراقيَّة حينها باتجاه خروج تلك القوات. وبالرغم من تحذير الكثير من الأطراف العراقية من مغبة المضي في هذه الخطوة وتخوفها من أن القوات الأمنية العراقية ليست بالكفاءة التي تؤهلها للإمساك بالملف الأمني، إلا أن الحكومة أصرت آنذاك على الأمر، ودخلت في مفاوضات مع الجانب الأميركي استمرت إلى عام 2011، وأثمرت اتفاقية استراتيجية شملت النواحي الأمنية والاقتصادية والعسكرية، وبدأت القوات الأميركية فعلياً بالانسحاب عام 2011.

إقرأ أيضاً: الحرب تمتد إلى لبنان واليمن.. و"الفتن" تأتي من الشرق!

إنَّ إصرار الحكومة العراقية آنذاك لم يأت من رغبة حقيقية في ذلك، بقدر ما جاء نتيجة ضغوطات مورست عليها من قبل إيران لإبعاد خطر التواجد الأميركي على حدودها الغربية، وفسح المجال أمامها لملء الفراغ الذي سينتج عن انحسار النفوذ الأميركي في هذا البلد سياسياً واقتصادياً وأمنياً.

بعدها ببضع سنوات، وضعت القوات الأمنية العراقية أمام امتحان عسير، كشف عن أنها أضعف من أن تمسك الملف الأمني كما ادعت الحكومة العراقية، وأثبت أن خروج القوات الأميركية كان قراراً خاطئاً، فقد انهزمت القوات العراقية أمام بضع عناصر من داعش احتلوا ثلث العراق في بضعة أيام، مما أجبر الحكومة العراقية على طلب قدوم القوات الأميركية وقوات التحالف إلى العراق من جديد، ولولا تدخل تلك القوات، لبقي العراق تحت سيطرة داعش إلى يومنا هذا.

إقرأ أيضاً: برميل البارود الإيراني

بعد تحرير الأراضي العراقية في 2007، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وراح موضوع خروج القوات الأميركية يثار من جديد، من نفس الأطراف التي كانت تصر على هذه المغامرة عام 2009، وبضغط إيراني أيضاً، ولنفس الأسباب آنفة الذكر. وإن كان هذا الموضوع يطرح سابقاً بشكل خجول بين الحين والآخر، إلا أنه أخذ ينحو حديثاً منحى جدياً، خصوصاً بعد تداعيات حرب غزة، وانخراط الفصائل المسلحة العراقية في تلك الحرب بشكل أو بآخر.

إنَّ الخريطة السياسية للعراق تتوزع بين مكونات ثلاثة، هي المكون الشيعي والمكون الكوردي والمكون السني، ولكل منها توجهاته السياسية التي تختلف عن التوجهين المقابلين. وكما هو معروف، فإنَّ المكون الشيعي يمثل الأغلبية في مؤسسات الدولة ووزاراتها، وينقسم بين:

1 - أحزاب إسلامية قديمة دخلت العملية السياسية منذ 2003.

2 - أحزاب إسلامية جديدة، شكلت على أساس مليشياوي، لكنها أقحمت نفسها في العملية السياسية خلافاً للدستور.

3 - طرف شيعي ثالث وليد علاقة غير شرعية بين إيران والأحزاب الشيعية الجديدة آنفة الذكر، المليشياوية الأصل، كانت ضمن تلك الأحزاب الشيعية المليشياوية الأصل، ثم انشطرت عنها بعد دخول المليشيات الأم إلى العملية السياسية، غير أنها بقيت جناحاً عسكرياً لتلك الأحزاب رغم تظاهرها بالاستقلالية عنها.

هذه الفصائل المسلحة هي من تقود العراق فعلياً في الوقت الراهن، وهي من بيدها الحل والعقد، وهي من توجه سياسة العراق وتسيطر عليه أمنياً واقتصادياً، ولذلك يمكن تسميتها بالحكومة الفعلية للعراق أو حكومة الظل العراقية.

إقرأ أيضاً: أهمية إدانة أحد مرتكبي مجزرة عام 1988 في إيران

يمكن تفهم التقارب الكبير بين الأحزاب الشيعية وبين إيران، لشعورها أن إيران هي عمقها الاستراتيجي وسط محيط سني "عربي وغير عربي"، لكن ما لا يمكن تفهمه هو محاولة تصوير مطلب خروج القوات الأميركية من العراق بأنَّه ينطلق من شعور وطني خالص، مع تخوين كل من يعارض تلك الفكرة... "تماماً مثلما كان صدام يعتبر نفسه الوطني الوحيد في العراق وغيره عميل خائن"... بينما الحقيقة أن مطلبهم بخروج هذه القوات يندرج ضمن الصراع الأميركي الإيراني في المنطقة.

لكن... معروف أن خروج القوات الأميركية من العراق حالياً ما هو إلا تقديم العراق بكل مكوناته كبش فداء لإيران، وفي المقدمة المكون الشيعي نفسه، وذلك للأسباب التالية:

أولآً: إن التاريخ يؤكد حقيقتين عن الإسلام السياسي وهما:

أ - عدم قدرة الإسلام السياسي على الاستمرار موحداً لفترة طويلة، فما يلبث أن ينشطر على نفسه إلى عدة "إسلامات سياسية".
ب - عدم قدرته على الاستمرار والديمومة من دون عدو، فهذا المبدأ مهم جداً لحشد الشارع خلفه، وفي حال عدم وجود عدو، يبدأ بخلق عدو له من العدم، وإن لم يجد عدواً يخلقه، ينكفيء على نفسه ليتقاتل مع نفسه.

هذه حقائق أثبتها التاريخ والحاضر، وما نرى من صراع بين المليشيات العراقية فيما بينها، وانشطارها عن بعضها بعضاً، يقدم دليلاً على ما نقول.

وعليه فإنَّ انسحاب القوات الأميركية "المفترض" يعني زوال العدو المشترك الذي كان يوحد تلك المليشيات، وزوال العامل الذي كان يعطي للحكومة "الصورية" في بغداد أهميتها. فهذه المليشيات كانت تأخذ شرعيتها من تلك الحكومة "الصورية" وتتحرك بحرية تحت غطائها... أمَّا بعد الانسحاب الأميركي وانتفاء الحاجة لوجود الحكومة الصورية، فسيقع البلد في حالة فوضى، ولن تحاول إيران ضبطها، فالفوضى تدفع هذه المليشيات للرضوخ لها أكثر، وتضع العراق تحت سيطرتها دون رقيب أو حسيب.

إقرأ أيضاً: الجيش السابع الذي تخشاه إيران

ثانياً: بالرغم من تظاهر الأحزاب الشيعية القديمة بانسجامها مع المليشيات، إلا أن تفرد المليشيات بالوضع العراقي عقب الانسحاب الأميركي، سيولد حساسية بين الطرفين قد ينتج عنها أجواء محشونة تآمرية بينها، خصوصاً أن الإسلام السياسي يبدع في سبك المؤامرات وحياكتها.

ثالثاً: لا يمكن التغافل عن موقف التيار الصدري الواقف في الطرف الآخر من المعادلة الشيعية، والذي يمتلك حساً قومياً أكثر من بقية الأطراف الشيعية، ولديه تحفظات على المواقف الإيرانية من الوضع العراقي بشكل عام، جعلت علاقاته متوترة مع بقية الأطراف الشيعية أحزاباً ومليشيات... وعليه، فإنَّ تفرد المليشيات وأحزابها بالوضع العراقي ودعم إيران لها سيجابه من قبل التيار بردود أفعال، قد تتطور إلى ما لا يمكن التنبؤ به.

من خلال ما سبق، نستطيع التوصل إلى فكرة مفادها أنَّ المكون الشيعي سيكون الأكثر تضرراً من بين بقية المكونات في حال إصرارها على الانسحاب الأميركي من العراق.

أمَّا فيما يتعلق بالمكونين السني والكوردي، فلديهما تحفظات كثيرة على موضوعة الانسحاب الأميركي من العراق يصل إلى حد الرفض، وذلك للأسباب التالية:

رابعاً: فيما يتعلق بالمكون السني، فإنَّ خروج القوات الأميركية من العراق يزيد من تخوفاته على مستقبله في ظل دولة تسيطر عليها مليشيات شيعية مسلحة، وهو ما يخلق حالة عدم توازن سياسي يزيل ما تبقى من انسجام بين المكونات الثلاث من خلال الحكومة القائمة في بغداد حالياً، حتى إن كانت تلك الحكومة صورية، وبالتالي، سيبحث عن بدائل لحمايته والعثور على مخرج له من تلك الأزمة، قد يصل إلى ما وصلت إليه الأمور بعد الانسحاب الأميركي الأول عام 2011، بالخروج في تظاهرات واعتصامات، ولن يسمح هذه المرة بتكرار ما حصل عام 2013 عندما تم إدخال المنظمات الإرهابية في حراكه بتآمر محلي إقليمي.

خامساً: لن تقف الدول السنية في المنطقة مكتوفة الأيدي إزاء الانسحاب الأميركي من العراق، ولن تسمح بتقديم العراق على طبق من ذهب لإيران، بل ستحاول بشتى الوسائل إنقاذ المنطقة السنية من هذه السيطرة، حتى إن دعا الأمر إلى دعم السنة للابتعاد عن بغداد بإقليم سني، وحتى بالانفصال.

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

أمَّا بالنسبة إلى المكون الكوردي، فإنَّ فكرة خروج القوات الأميركية غير مقبولة عنده بشكل عام، خصوصاً في الظروف الإقليمية الحالية. فتجربة السنوات السبع بعد تحرير العراق وسيطرة المليشيات على العراق خلقت عند الكورد انطباعاً بصعوبة خلق عراق ديمقراطي حقيقي في ظل العبث والفوضى المليشياوية هذه، خصوصاً أنها تتحرك ضمن خطة إيرانية تهدف إلى إضعاف إقليم كوردستان سياسياً واقتصادياً وأمنياً بكل الوسائل. لذلك، فخروج القوات الأميركية وسيطرة هذه المليشيات على الوضع العراقي مع إيران يمثل تهديداً حقيقياً للكورد، وسيحاولون ما في وسعهم لتفكيك تداعيات هذا الانسحاب "إذا حصل"، مستغلين علاقاتهم الدولية الواسعة من خلال المحاور التالية:

أ - استثناء إقليم كوردستان عن مغادرة القوات الأميركية، مستندين إلى قرار مجلس الأمن بخصوص المنطقة الآمنة عام 1991، بل وحتى زيادة تلك القواعد.

ب - بإمكان الإقليم طلب الحماية الدولية سياسياً واقتصادياً عن العراق، وهو ما يتماشى مع القوانين الدولية في حال شعور أي شعب بالتهديد على مستقبله.

ج - الانسحاب من العملية السياسية في بغداد والرجوع للوضع الذي كان سائداً قبل 2003.

د - وإذا تمكن الكورد والسنة من توحيد رؤاهم، فبإمكانهما التحرك مع بعض دولياً لإخراج المناطق التي تسيطر عليها المليشيات من نطاق الدولة العراقية، واعتبارها منطقة خارجة عن شرعية الدولة العراقية، وبالتالي محاصرتها دولياً.

إقرأ أيضاً: كيف أحبط الإعلام الرقمي البروباغاندا الغربية

بالرغم من كل ما ذكرناه آنفاً، فإنَّ دعوة القوى المليشياوية لخروج القوات الأميركية من العراق دعوة غير صادقة وعبثية، تندرج فقط ضمن الاستهلاك المحلي وخداع مواطنيها، فهي تدرك الموقف الأميركي من هذا الطلب، في أنها لن تكرر تجربة أفغانستان وتنسحب من العراق في ظل الظروف الإقليمية الحالية. لذلك، تراجعت مؤخراً وألقت بمسؤولية القرار على عاتق الإجماع في البرلمان، وطرح استفتاء شعبي عن طريق الهاتف، وهما مفارقتان مضحكتان، فقرار الانسحاب الأميركي عام 2011 اتخذته الحكومة العراقية من دون الرجوع إلى البرلمان، ولا للاستفتاء الشعبي، فتصوروا أي عقليات تدير العراق حالياً يا رعاكم الله.