خطأ كبير وتاريخي وقعت فيه حماس عندما هاجمت عدداً من المستوطنات وقتلت وأسرت عدداً من الرهائن الإسرائيليين في عملية مفاجأة، وظفتها إسرائيل لكسب تعاطف عالمي واندفاع عدد من الدول العظمى لحمايتها، يدخل في أعمال النزق الثوري الذي لا يحسب نتائج الفعل وأهميته في جدل الصراع غير المتكافئ بين الطرفين، وما سوف يكون عليه الحال بعد هذه الهجوم؟ هذا ما سيدركه المتابع للشأن السياسي قريباً، بحكم النتائج المترتبة على ما أقدمت عليه حماس ووصفناه بالخطأ التاريخي، استناداً للقراءة السياسية ومبدأ فن الممكن.

اقتحام السياج الأمني والغطاء الاستخباري الكثيف لإسرائيل يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 كان خطوة شجاعة بلا شك، وصدمة لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة إسرائيل السياسية والعسكرية، لكنَّ الخطأ التاريخي لحماس أنها لم تحسب معادلة القوة، فقد دخلت في حرب مع دولة عنصرية بتكوينها الفكري والآيديولوجي وتمتلك آلة حربية جبارة ومتطورة جداً، وغطاءً حربياً وسياسياً واقتصادياً من ثلاث دول كبرى (أميركا وبريطانيا وفرنسا)، ناهيك عن التأييد والدعم الأوروبي غير المحدود لها، بينما البنية الحربية لحماس تتمثل بقوة صغيرة لكنها صادمة ومؤقتة، بل هي أقرب لنمط حرب العصابات، وتتسم بضعف قدرات الحركة العسكرية والاقتصادية واللوجستية مقارنةً بإمكانيات دولة مثل إسرائيل تتلقى دعماً غير محدود من مراكز المال والسلاح في العالم، إذ يسيطر اليهود الداعمون للكيان الصهيوني على أهم مراكز المال والإعلام وتجارة السلاح.

إقرأ أيضاً: برميل البارود الإيراني

حماس بخلاف إسرائيل دخلت الحرب وهي بلا غطاء من دول ساندة، بل حتى الممول الرئيس والأقرب لها، إيران وحزب الله اللبناني، لم يكونا على علم بخطوتها الاقتحامية وما يترتب عليها لاحقاً، بل إنَّها كشفت عن قدراتها الذاتية التي بدأت تتعاظم تحت الأرض في شبكات الأنفاق بوقت غير مناسب عربياً ودولياً، فأصبحت هدفاً للطيران الإسرائيلي والصواريخ وشتى أنواع القنابل والمقذوفات، بما فيها المحرّمة دولياً، وجرى تدمير نصف غزة بجميع مبانيها ودوائر خدماتها ومدارسها وطرقها ومستشفياتها، إضافة إلى قتل يتصاعد عداده اليومي بلا توقف منذ ثلاثة أشهر، وأعداد هائلة من الجرحى والمطمورين تحت الأنقاض، وتهجير أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، بمعنى كلفة باهضة جداً دفعها الشعب الفلسطيني جرَّاء دخول حماس بحرب ضد إسرائيل دون قدرتها على تحديد موعد لإيقاف تيار النزيف والخسائر.

إقرأ أيضاً: العراق: أميركا تزرع وإيران تحصد!

أحدثت معركة حماس ضد إسرائيل اضطراباً في جميع الدول الداعمة لها وغير الداعمة أيضاً، فقد دخلت دول الجوار الفلسطيني في أزمات داخلية متنوعة، كذلك وضعت حزب الله اللبناني وإيران في زاوية حرجة عندما طالبتهما بخوض الحرب إلى جانبها ضد إسرائيل، بمعنى دخول حرب ضد أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وجميع الدول المؤيدة والمساندة لإسرائيل، دون الأخذ بنظر الاعتبار أوضاع إيران ولبنان وما يعاني كل منهما من أزمات عديدة لا تسمح لهما بخوض حرب لم يتفقا عليها، ولم تجر الاستعدادات لخوضها.

كانت إيران أمام ضغط كبير مقارنة بالتصريحات التي كان يطلقها قادتها بشأن تحرير فلسطين والقدس ودعم حماس وغيرها من الشعارات الثورية، فأوعزت لأذرعها بخوض المعركة إلى جانب حماس من خلال ضرب القواعد الأميركية بالمنطقة التي تولتها فصائل مسلحة عراقية، كذلك قام الحوثيون بقصف ومنع مرور السفن في البحر الأحمر ودخول حزب الله اللبناني الحرب في حدود قصف متبادل في قواعد اشتباك محدودة ومسيطر عليها.

الفصائل العراقية التي تقوم بقصف القواعد العراقية التي يتواجد فيها أميركان، أحدثت شرخاً ما بين الحكومة العراقية وحكومة الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن قامت الأخيرة بقصف مقرات الحشد الشعبي ومقرات حركتي النجباء وكتائب حزب الله العراقي، وأدخلت الشارع العراقي بمخاوف من حدوث تصادم مسلح ما بين الفصائل والقوى الأمنية العراقية، بعد أن تم قصف مبنى وزارة الأمن الوطني العراقيَّة.

إقرأ أيضاً: أهمية إدانة أحد مرتكبي مجزرة عام 1988 في إيران

حزب الله اللبناني ما زال محاطاً بنذر الحرب والتجهيز الإسرائيلي - الأميركي لتدمير ماكنته التسليحية في حرب مفتوحة يمكن أن تندلع بأي وقت، وقد دخل الحرب الجزئية خلال الأشهر الثلاثة الماضية للتخفيف مما يقع في غزة من مآسي، لكنها بالواقع لم تخفف، بالرغم من أنَّ الحزب أعطى أكثر من مئة شهيد حسب تصريحات زعيمه حسن نصر الله، والعبء الأكبر الآن يتجه نحو الحوثيين واليمن، فقد جمعت الولايات المتحدة الأميركية حلفاً عسكرياً يضم أكثر من عشرين دولة أوروبية وغربية بعنوان "حارس الأزدهار"، لإنهاء التهديد الحوثي في البحر الأحمر وباب المندب، وجاء قرار مجلس الأمن ليوم 10 كانون الثاني (يناير) 2024 بإدانة أفعال الحوثيين ليقدم غطاءً سياسياً وقانونياً للحدّ من نشاط وقوة الحوثيين، وما يرافقه من تدمير إضافي لليمن، وبالفعل فقد تعرضت مقرات الحوثيين في صنعاء وصعدة والحديدة وغيرها فجر اليوم الجمعة 12 كانون الثاني (يناير) 2024 إلى ضربات صاروخية أمريكية - بريطانية كجرس إنذار للحرب، وربما تتسع الحرب لتشمل إيران التي تعاني أزمات متعددة وظروفاً غاية في الصعوبة وضعتها فيها حرب غزة، وانكشاف أذرعها وقدراتها وخسارة عدد ليس بالقليل من كوادرها الأمنية من قيادات الحرس الثوري في سوريا ولبنان والعراق واليمن.

إقرأ أيضاً: الجيش السابع الذي تخشاه إيران

الآن، وبعد عجز المساعي الدولية عن إيقاف حرب غزة، تجد جميع الأطراف نفسها في حالة حرج وبلا مخرج من هذه الأزمة العميقة التي استغرقت وقتاً طويلاً وخسائر فادحة، دون تحقيق أي هدف لصالح حماس والشعب الفلسطيني، وما زالت تتكبد خسائر باهظة في الأرواح والبنى التحتية دون آفاق للحل، أو حدود زمنية لانقضائها أو توقفها.

الأزمة التي دخلتها حماس دون حسابات دقيقة للخروج منها، تحولت إلى مأزق كبير ومأساة هائلة لشعب قطاع غزة، واستولدت أزمات أكبر تهدد الوجود اللبناني واليمني وتعصف بالاستقرار في العراق، وتبدد طاقة إيران وتكشفها أمام الصواريخ والطائرات الإسرائيلية والأميركية.