لا بد أنَّ هناك الكثيرين من سكان المدينة التي أنحدر منها في الشمال الغربي لتونس، قد خبروا مثلي ذلك اليوم الذي لم تلتق فيه أعينهم بعيني رجل الأمن المسؤول عن جوازات السفر، ومع ذلك راق له أن يدوّن لهم في خانة لون العيون "كستانيّة"، وكأن جميع سكان المدينة توائم أو لديهم ميزة تطورية، تجعلهم موحدين في لون العيون.
لا يبدو ذلك الشرطي الذي التقيته ذات صباح في مركز الأمن عندما عزمت على استخراج جواز سفري في بداية الألفينات، خبيراً محتملاً في العيون، ومع ذلك، فقد أصر على أن لون عينيّ كستاني، بالرغم من أنني أكدت له أنهما سوداويتين، ولم يكتف بذلك، بل تعمد أن ينقص بضع سنتيمترات من طول قامتي، ولم يكفل نفسه حتى النظر إليّ أو قياس طولي، للتّأكد من صحة المعلومات، قبل أن يدونها على الوثائق الموجودة أمامه.
لا أعرف السبب وراء ولع ذلك الشرطي باللون الكستاني، وتحاشيه النظر في عيون العملاء، لكنني اقتنعت لوهلة - بعد أن تصفحت جوازات سفر بعض أقاربي وأصدقائي من سكان الجهة - أنَّ في نفسه شيء من حب فاكهة الكستناء، يجعله يغدق لونها بسخاء على عيون معظم من يقصده لاستخراج جواز سفر.
علاوة، بالطبع، على نزوع رجل الأمن في تلك الفترة من تاريخ تونس نحو الشعور بالكمال، واضماره في داخله رغبة ملحة في حب السيطرة وفرض رأيه على كل من حوله، لكن من حسن الحظ أن التطورات التكنولوجية والعلمية والتحولات الاقتصادية وحتى المناخات السياسية، قد حولت بعض مهام وسلوكيات رجال الأمن إلى مجرد تطلعات عفا عليها الزمن، ولم تعد تصلح للعصر الحالي.
علينا ألا نغفل هنا عن تأثيرات البيئة، التي ربما أسهمت في عدم ارتياح البعض للنظرة البشرية المحدقة والمتفرسة إلى الوجوه، وتحاشي الكثيرين النظر إلى الآخرين أو التقاط رسائل ومعان من نظرات عيونهم.
الاتصال بلغة العيون تختلف النظرة إليه على اختلاف الأوساط الثقافية والاجتماعية. وبحسب خبراء في السلوكيات الاجتماعية الآسيوية، "يُمتدح الاتصال بالعيون، بل ويكون مطلوباً في الغرب؛ لكنه يُرى على أنه علامة على الوقاحة والحسد والغيرة في بعض الثقافات الآسيوية والأفريقية، وتلصق به الكثير من التهم ذات الطابع الفضفاض".
إقرأ أيضاً: مغادرة القوات الأميركية في الميزان
على أيّ حال، كثيراً ما يُنصح المرء في المجتمعات العربية والإسلامية بـ"غض البصر وعدم الاسترسال في التأمل والتحديق في الآخرين حتى لا يصيبهم بالضيق والحرج، وحتى يتحاشى الوقوع في الآثام"، وهذه النصيحة ذات أهمية كبيرة، لكنَّ التركيز على الجانب السلبي لنظرات العيون، قد يجعل لغة التواصل البصرية مجرد نظرات مشحونة بالأفكار المغلوطة والمشاعر السلبية، بالرغم من أنَّ التواصل البصري له مزايا تتجاوز مجرد التحديق في الآخرين، لإشباع شهوات جنسية أو بدافع الحسد المرضي.
ربما تميط لغة العيون اللثام عن أشياء أكثر بكثير من تلك التي نرغب في قولها أو نفصح عنها بالكلمات، بل لعلّها اللغة المحوريَّة الأساسيَّة، التي أتاحت لنا فهم أنفسنا وفهم الآخرين من حولنا، وساعدتنا على تطوير مهارات اجتماعية، جعلتنا نثمن قيم التعايش والتسامح، كالثقة في الآخر وتوثيق العلاقات العاطفية والاجتماعية والانسانية.
لا شك في أنَّ الناس في أيّ مكان وزمان، ومهما اختلفت ثقافاتهم وأعراقهم وأجناسهم وأزمانهم، في حاجة دائمة إلى كيمياء تلاقي النظر، حتى يخرجوا بافتراضات حول شخصيات الآخرين، ويتغلبوا على قصر النظر البشري الطبيعي، إزاء البدائل الموجودة من حولهم.
إقرأ أيضاً: العشوائيات الديمقراطية
صدق بعض العلماء حينما قالوا إنَّ العين نافذة الروح، لكن حين تنظرون إلى عيون أشخاص آخرين أو ينظرون إليكم، تمهلوا قليلاً، ولا تسارعوا إلى الحكم عليهم، فربما كانت تلك النظرات قادرة على تصحيح التشويش الحاصل في أفكاركم، مع كل ما تمرون به من انشغال دائم بوسائل التكنولوجيا، أنستكم النظر إلى وجوه بعضكم بعضاً، وغيرت سلوكياتم وعاداتكم وقيمكم، فخيمت على حياتكم العزلة، وتحكمت فيكم الأجهزة بدل أن تتحكموا فيها.
في النهاية، يمكن اقتباس ما قاله الروائي الراحل إبراهيم أصلان "غاب عن البال بعدما غاب عن العين".
التعليقات