في ظل تصاعد التطرف الديني في المجتمعات العربية، ومع الجدل الدائم حول العلمانية كأحد الحلول وتعريفها وتطبيقها في هذه البلدان ذات الخاصية الدينية والتي لم تَعرف معنى الدولة بعد، من المهم مواصلة المحاولات لشرح العلمانية وتقريب المسافة للشعب بين النظرية والتطبيق. فما هي العلمانية نظرياً وكيفية تطبيقها على أرض الواقع؟

لمحة تاريخية مختَصَرة
شهد القرن التاسع عشر صعود نقد الفكر الديني بما في ذلك الكتب الدينية وأحكام الكنيسة المُسيطِرة على كل شيء آنذاك مع بداية نمو العلم وعصر التنوير وانتشار واسع للنظريات الفلسفية وظهور الإلحاد الذي بدأت تواجهه أوروپا كفِكر مُهدِّد للكنيسة وهيمنتها، ما دفع مجموعة من المفكرين - وفي سعيهم لهيمنة الدولة على الدين وسيطرته - لطرح مصطلح العَلمانية كموقف محايد عن الإلحاد لفصل الدين عن الدولة. ومع أنّ لمصطلح العلمانية جذور في الفلسفة اليونانيّة القديمة، غير أنّها خرجت بمفهومِها الحديث خلال عصر التنوير الأوروپي.

حوربت العلمانية حينها في أوروپا إلى ما بعد الثورة الفرنسية والتي أنتجَتْ عَلمانية متشددة حازمة في معاداتها للدين وشخصياته تسعى لإخضاع المؤسسة الدينية لخدمة السياسة وليس فقط لفصلهما عن بعض، وسُمّيت المدرسة العلمانية الحازمة. من هنا، استطاعت الدولة أن تهيمن على الكنيسة وفرضت قوانينها وبدأت سيطرة الدين تضمحل بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت الثورة الفكرية.

فالعَلمانية هي مبدأ يقوم على فصل الدولة ومؤسساتها بما في ذلك القوانين ودستور الدولة والسلطة السياسية عن الدين بكامل مؤسساته وسلطته وشخصياته، واعتماد قوانين وضعية دنيوية مدنية مع عدم تبنّي الدولة لأي دين، ومع حرية اعتناق الدين أو عدمه أو الإلحاد كموقف فلسفي شخصي. فمصطلح العَلمانية مشتَق من "عالَم" ويعني دنيوي يحاكي العالَم الآني الواقعي وليس الماورائي، ويدعو للفصل بين الدين والدولة وحياديّتهما تجاه بعض. تميّزت العلمانية من بداياتها بالحياد تجاه الدين بشكل نظري، لكن عملياً كان هناك عداوة متبادلة بينهما (في البدايات) ساهمت بتشكيل أنواع للعلمانية لاحقاً، واختلفت الدول بتطبيق العلمانية حسب أنواعها، فللعلمانية أنواع:

العلمانية السياسية: وهي الفصل بين الدين والدولة بحيث إبعاد الدين بشكل كامل عن عمل الحكومة ومؤسساتها وخلو الحياة المدنية من هيمنة الدين من دون معاداة الدين. أي اتخاذ موقف محايد من الدين مع ضمان حقوق متساوية لمعتنقي الديانات على اختلافها وللملحدين واللادينيّين. يَعتبر الكثير من المتديّنين وغير المتديّنين العلمانية السياسية أنها الأكثر اعتدالاً والأفضل لضمان حرية الدين والحفاظ عليه في آنٍ معاً. العلمانية السياسية تتبع للمدرسة العلمانية الجزئية، والتي هي أكثر تصالحاً مع الدين، ومثال على هذا النموذج هي الولايات المتحدة الأميركية.

العلمانية الفلسفية: هي مدرسة فكرية تقوم على توظيف الفكر والكتابات والنشاط الثقافي لنقد الدين وتفكيكه وكشف زيفه وادّعاءاته كظاهرة خاطئة يجب تحرير المتديّنين منها. العلمانية الفلسفية ليست حيادية تجاه الدين كالعلمانية السياسية، إنما تسعى لنشر الفكر الناقد للدين والمناهض للإلحاد والتحريض على الدين وهي أبرز ثمار الثورة الفرنسية المناهضة لاستبداد الملكية والكنيسة، ومثال على هذا النموذج هي فرنسا.

العلمانية الاجتماعية والثقافية: هي عَلمنة الحياة اليومية، وتعتمد العلمانية الاجتماعية على فكّ ارتباط الناس بالطقوس الدينية والشعائر والنشاطات الدينية اليومية أو الأسبوعية التي تحدّ من نشاطهم خارج الدين وتُبقي الحياة ضمن دائرة الدين. يتم هذا بتشجيع الناس على كسر نمطية الذهاب كل أسبوع للكنيسة أو المسجد أو المعبد، وفتح المتاجر يوم الأحد أو الجمعة، وتكثيف البرامج التلفزيونية والعروض الفنية والنشاطات الخالية من الدين وتجاهله تماماً لإضعاف الشعور الديني أو الحاجة لربط الدين بكل شيء وتثقيف الناس أن لا يهتمّوا بالدين أو بالماورائيات مثل الله، الجنة، أو الجحيم.

من هنا، نرى أنّ العلمانية السياسية هي العلمانية الأنسب للمجتمعات العربية كبداية، والتي ستكون الأرضية المطلوبة لتحقيق المواطنة لقيام الدولة العصرية بوجود قوانين مدنية وضعية داعمة تتماهى مع قوانين حقوق الإنسان كما وردتْ في ميثاق الأمم المتحدة. وهناك حرية دينية في العلمانية تكفل حق التديُّن أو عدمه وليس العكس كما هو متداول في الأوساط الدينية بربط العلمانية بالإلحاد، ولهذا قوبل المصطلح بالرفض في العالم العربي لالتباسه مع الإلحاد ومعاداة الدين ولارتباط المصطلح بالاستعمار في أذهان شعوب الشرق الأوسط. من هنا بدأت إشكالية العلمانية في العالم العربي وما زالت في أذهان الناس كقناعة راسخة أنّ العلمانية معاكسة للدين أو لله كما يرى المتديّنون، وهنا تكمن المشكلة في ثقافة الشعوب وفي القناعات وكما قال الفيلسوف نيتشه "أعداء الحقيقة ليست الأكاذيب، بل القناعات".

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

تطوّرت العلمانية اليوم وأصبحت أكثر مرونة لتُناسِب واقع كل مجتمع. فالعلمانية لا تعني الإلحاد أو إلغاء الدين؛ الإلحاد موقف شخصي وفلسفي من الأديان وليس نظاماً عقائدياً ولا هو ديناً، بينما العلمانية مبدأ عام يقوم على فصل الدين والفكر الديني عن السلطات السياسية والقوانين مع حرية اختيار وممارسة الأديان ومنع استغلال الدين لصالح السلطة السياسية لدعم بقائها في السلطة وهو ما يفسّر عدم تطبيق العلمانية في أغلب البلدان العربية لأنها ستقطع الطريق على السلطات السياسية في استغلالها للدين وشخصياته، وستقطع الطريق أيضاً على رجال الدين في استغلالهم للسياسة، ذاك لأنّ الدين والسياسة وجهان لعملة واحدة تدعم إحداهما الأخرى.

لماذا العلمانية ضرورية في الشرق؟
في مجتمع يحكمه الدين بكل تفاصيله، ومُتنوّع إثنياً ودينياً وعرقياً كعدد من بلدان الشرق الأوسط، العَلمانية تخدم هذا التنوّع الذي شكَّلَ هوية الدولة التعددية وتحافظ على هذه الهوية وعلى الآخر ضمن عقد اجتماعي يقف على الحياد أمام الجميع ولا يتبنّى الفكر الديني. لقد أثبتت العلمانية أنها عامل حاسم في تعزيز التعددية والاستقرار والتقدم في مختلف المجتمعات حول العالم. وفي سياق الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تتميز بتاريخها الغني وثقافاتها المتنوعة، لا يمكن المبالغة في التأكيد على أهمية اعتناق المبادئ العلمانية. فالشعوب اليوم تنشد التفاهم والشراكة وليس التعايش، فمصطلح التعايش يشي بطريقة ضمنية أنّ هناك مشكلة والناس تتعايش معها، على مبدأ التسامح كأنّ فئة تتوهّم أنها صاحبة حق تتكرّم على الآخرين بتسامحها معهم، وهذا غير مقبول ولا يمكن أن يكون حلاًّ للتعددية والمواطنة.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

كان إنشاء الدول العلمانية في الغرب خلال فترة التنوير بمثابة خروج عن الحكم الثيوقراطي ووضع الأساس لفصل الكنيسة عن الدولة. وفي حين أن بعض دول الشرق الأوسط، مثل تركيا وتونس، تبنّت درجات متفاوتة من العلمانية في الماضي، فإن دولاً أخرى لا تزال تتصارع مع تحديات الموازنة بين النفوذ الديني والحكم السياسي، وما زال الجدل يستمر حول العلمانية في أغلب البلدان الشرقية التي لم تَعرف معنى الدولة بعد والمحكومة من أنظمة ديكتاتورية استعملت الطائفية والموروث الديني لصالحها وشكّلت بيئة خصبة لنمو الفكر الديني والطائفي الذي تدّعي محاربته.

هذا الفكر الديني المؤسس كان وما زال مُهدِّداً للأمن العام وللمواطنة ولفكرة الدولة العصرية المنسجمة مع تطور العلم والمعرفة، فضلاً عن تصاعد التطرف الديني وتغلغل الإسلام السياسي في المجتمعات العربية والذي عزّز الطائفية وتسبَّبَ بازدياد العنف والجريمة وأصبح يشكّل تهديداً حقيقياً وتحدياً كبيراً ومعقداً للمجتمعات عموماً وللحضارة الغربية في المشهد العالمي المعاصر، فصعود الإيديولوجيات المتطرفة داخل الإسلام أصبح مصدر قلق ملحاً لاستقرار وأمن المجتمعات العربية والغربية على حدٍّ سواء، ويقف خلفه النظام السياسي بأقنعته الكثيرة ومناورته واختبائه تارةً وراء "بعبع" البديل وتارةً وراء فرضية شرع الله، وهو من يرعى تخلّف البلاد ومنع التطور والعلمانية وتحقيق الدولة العصرية.

إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟

فأحد التحديات الرئيسية التي تواجه العديد من دول الشرق الأوسط هو الصراع على السلطة. واعتناق العلمانية يخفّف من حدة هذه الصراعات من خلال إنشاء أرضية محايدة تستند فيها القرارات السياسية إلى العقلانية والمساواة وسيادة القانون بدلاً من المذاهب الدينية. فضلاً عن أنّ الحكم العلماني يساعد في منع صعود الاستبداد الذي تغذّيه الإيديولوجيات الدينية. ومن خلال فصل المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية، تستطيع الدول العلمانية حماية حقوق الأقليات بشكل أفضل، وضمان مساءلة القادة، وخلق بيئة سياسية أكثر ملاءمة للديمقراطية لتحقيق الدولة العصرية والنهوض بالمجتمع بانتصار العلم والمعرفة والتطور وليس الانتصارات الوهمية الإعلامية.

العلمانية ليست ضرورية للاستقرار الاجتماعي والسياسي فحسب، بل تلعب أيضاً دوراً حيوياً في تعزيز التنمية الاقتصادية. ومن خلال إعطاء الأولوية للعقل واتخاذ القرار المبني على الأدلة، تصبح الحكومات العلمانية مجهزة بشكل أفضل لصياغة سياسات اقتصادية سليمة تعمل على تعزيز النمو والازدهار. وبهذا، يمكن للعلمانية جذب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع مجتمع أكثر انفتاحاً وديناميكية. عندما تعطي الحكومات الأولوية للقيم العلمانية، فإنها تبعث برسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أنها ملتزمة بخلق بيئة صديقة للأعمال خالية من التدخل الديني. ومن خلال هذا، تعمل العلمانية على تعزيز تكافؤ الفرص لجميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، وتساعد بالتالي هذه الشمولية في سد الانقسامات التاريخية وبناء شعور بالهوية الوطنية التي تتجاوز الانتماءات الدينية.

إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط

في الختام، لا يمكن المبالغة في أهمية العلمانية في الشرق الأوسط. ومن خلال تبني المبادئ العلمانية، تستطيع المنطقة أن تمهّد الطريق لمزيد من الوئام الاجتماعي، والاستقرار السياسي، والتنمية الاقتصادية. تُوفّر العلمانية أرضية مشتركة للتفاهم بين المجتمعات الدينية المتنوعة، وتخفّف من حدة الصراعات السياسية التي تغذّيها الإيديولوجيات الدينية، وتعزّز بيئة مواتية للتقدم والازدهار. وبينما يتنقل الشرق الأوسط عبر تعقيدات العالم الحديث، فإن اعتناق العلمانية يوفّر طريقاً نحو مستقبل أكثر شمولاً وعدالة واستدامة يحقّق غايات الإنسان من سعادة ورفاه في الحياة الحالية بدلاً من فرضية تحقيقها في الآخرة، وهو ما يتناسب مع مفهوم التطور ومع النظريات العلمية وعلم النفس الإيجابي لتحقيق السمو الإنساني.