تخوض دول الخليج العربي اليوم أهم مرحلة في تاريخها، وهي مرحلة تشكيل الهوية المنشودة التي لطالما دأب حكّام الخليج لتحقيقها في ظل غياب لتاريخ سياسي وتراكم حضاري كانا ليُساهما في وضع حجر الأساس الذي لم يُفقَد بكل الأحوال. فالمهمّة لم تبدُ مستحيلة كما لطالما توقَّعَها منظّرو الجيل القديم. هؤلاء المُنظّرون الذين احتكموا لتقييمهم بمحاولة النظر من ثقب التاريخ وما أسموه المسار الطبيعي للتطور، وليس من فتحة الانفتاح التي غيّرَتْ تسلسل المسارات أصلاً. فكان البعض يقع في سقطة فكرية ونظرة قاصرة تستحيل بناء دولة ومستقبل من دون إرث حضاري يمتد لآلاف أو مئات السنين، وهذا لم يكن صحيحاً، والتغيير يحدث وحدثَ بتغيُّر أدواته.

اليوم يتمّ صناعة هذا الإرث الحضاري، يتم صناعة مجتمع وثقافة جديدة. ففي ظل التطور العلمي والتكنولوجي والثقافي في العالم، ليس بالضرورة أن تمرّ المجتمعات بمراحل طويلة وتتعاقب عليها الحضارات حتى تتطوّر كتَراكُم حضاري، بل ما حدث في الأربعين سنة الأخيرة دحض هذه النظرية، حيث بلدان كثيرة حاملة إرث حضاري يمتد لآلاف السنين وكان وما زال لها بصمات في المعرفة والعلم، كانت في طور التطوير في سبعينيات القرن الماضي، تراجعت ثقافياً وحضارياً واقتصادياً رغم هذا الإرث.

وبهذا، فلا بأس من صناعة حضارة ومستقبل من دون تاريخ خاص حصري بالبلد، ومَن يقول الخليج صحراء بلا تاريخ ولا حضارة، هو كلام كلاسيكي يتبع نفس النظرة الكلاسيكية للأمور.

أولاً، عربياً، هناك توجّه اليوم يبدأ من الخليج للتخلّي عن الإسلام السياسي في المنطقة. نعم الخليج بما فيهم قطر داعمة الإسلام السياسي في المنطقة لسنوات. اليوم تغيّرَتْ البوصلة، ومَن كانوا أعداء الأمس سيصبحون أصدقاء الغد إلى حين تتغيّر المصالح مرة أخرى.

ثانياً، هذا التوجّه هو بتوافق دولي، أي التغيير الخليجي الذاتي للتوافقات الدولية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لأجل تحقيق الاستقرار المستدام وهو إحدى أدوات منع الإرهاب وعدم الفرصة لاستمرار تنامي ظاهرة الإسلام الراديكالي المتطرف كما حصل بالسابق. فالتطور والازدهار الاقتصادي والتغيير المجتمعي كفيلان بتغيير تلك المجتمعات وهذا يصب في مصلحة خليجية غربية. ومثال ذلك النموذج الامارتي الناجح والذي حقق السلام الداخلي والأمن وباتت الإمارات محطة استقطاب عالمية، واليوم السعودية تتجه نحو ذلك أيضاً وحتى قطر، وبدأنا نرى مظاهر التغيير حتى لو كان بقرار من أفراد من السلطة، على أمل أن يؤثّر هذا على الثقافة الشعبية ويمتد هذا التغيير للتغيير السياسي والحرية السياسية في الخليج وليس فقط التغيير الاقتصادي والمجتمعي.

وهنا يقول البعض، "لا ينجح التغيير بقرار من أفراد؛ التغيير حُكماً نتيجة تراكم حضاري فقط،" ناسفاً بهذا أدوات التغيير الجديدة وأنّ لكل مرحلة أدواتها وكل شيء مُتغيِّر حتى المبادئ في علم الاجتماع.

لكن للتوضيح، ألم يكن الانغلاق في هذه البلدان نفسها بقرار من أفراد؟ هل الشعوب هي مَن أرادت هذا أم فُرِض عليها؟ وهل تغيّر شيء في أيّ دولة إلاّ بقرار من أفراد، من النُّخَب أو مَن هم في السطلة يحتكمون لهذا التغيير؟

حتى في الغرب، رغم الفارق الحضاري الكبير، مَن طالب بالتغيير ومَن غيّر فعلاً هم "أفراد" النخب ومَن بيدهم القرار من السياسيين، والشعب كان غالباً يتبع هذا التغيير والقرارات الجديدة ما يُنتِج مرحلة وثقافة جديدة.

في ظل أنظمة ملكية أو عائلية كما في الخليج، ومنظومة ثقافية كانت شبه منغلقة ولا تملك ذاك الإرث الثقافي، تحتاج المسألة قراراً جريئاً من صاحب القرار كالملك أو الحاكم ينقل البلاد إلى مستوى آخر ويؤسّس لثقافة مجتمعية جديدة قد نرى نتائجها على الصعيد السياسي أيضاً قريباً.

ثالثاً والأهم، الشعوب اليوم مستعدة دائماً للتطوير ليس كما السابق رغم مظاهر التشدّد في بعض البلدان والثقافات، لكن الانفتاح المعرفي والتكنولوجي الحاصل كان له آثاره المهمة في تهيئة الشعوب للتغيير.

الحاضر المعرفي الذي وصلنا له وأدواته بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت وما زالت منصّة حاضنة لأفكار الملايين وتطلّعاتهم ومنفَذ لكسر التابوهات التي أثقلَتْ كاهل الشعوب، هذا الحاضر المعرفي هو الأداة الأهم والأكثر فعالية للتغيير اليوم مع قرارات تغييرية جريئة.

فنعود لسؤال البعض، هل يُصنَع مستقبل من دون تاريخ سياسي وحضاري؟

نعم، لأنّ التاريخ الحضاري لهذا العالم أصبح مشتَرَكاً والمعرفة بمتناول يد الجميع. فهل نرى انحساراً للتطرف في كل مكان بما فيهم حزب الإخوان المسلمين بعد التخلّي عن الوهابية في السعودية التي صدّرَتْ التشدد لبلدان مجاورة وغيرها كانت في طور التطوير فأعادتها للوراء ولكنها اليوم تتخلّى عنها وترتدي ثوب الانفتاح؟ وهل سيكون التخلّي عن الإسلام السياسي في المنطقة فقط أم سيمتد لتركيا وإيران وتُصيب هذه المرة الثورة الإيرانية الحالية بإسقاط ولاية الفقيه مرتع الإسلام السياسي الشيعي؟ هذا هو السؤال..

ليس لنا كمثقّفين إلاّ أن نبارك لخطوات التغيير الإيجابية في الخليج مُتطلّعين لثقافة جديدة للعالم كله هي ثقافة الانفتاح والتعايش والسلام.