في أحداث دراماتيكية لم تستغرق أكثر من عشرة أيام، هوى نظام الطغمة الحاكمة في دمشق دون مقدمات. حتى أنصار الأسد وقيادات جيشه وأجهزته الأمنية العتيدة لم يتوقعوا هذا السقوط المدوي، فهرب معظمهم في اللحظات الأخيرة مخلفين ورائهم حتى أشياءهم الخاصة، وهذا حال الدكتاتوريات عبر التاريخ. في خطوة غير مسبوقة في تاريخ سوريا، هرب رأس العصابة فجراً دون إعلام أحد حتى من أقرب المقربين منه كأخيه وأركان حكمه، بل وحتى مدير مكتبه. هرب الأسد تحت جنح الظلام كالجرذ الغارق في وحل الرذيلة. هرب بشار الأسد إلى صديقه وشريكه في قتل الشعب السوري وسيده في الكرملين الذي ضاق ذرعاً بأساليب حمايته فقرر التخلي عنه وبيعه كجارية في سوق النخاسة. رحل الأسد ونظامه الطائفي الذي بقي جاثماً على صدور السوريين خمسة عقود كاملة بعجرها وبجرها، إذ لم يسلم سوري من بطشهم وإجرامهم. عصابة استباحت دماء السوريين وأموالهم وأعراضهم وفتكت بهم جهاراً نهاراً دون رادع أخلاقي أو وطني أو ديني إلى درجة استمراء آل الأسد وحاشيتهم القتل والإجرام ونهب ثروات البلاد والعباد وترسيخ الفساد والإفساد بالدولة السورية المغتصبة. دمروا البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية للشعب السوري، ويكفي ما فعلوه بالشعب السوري من قتل وتدمير وتهجير واعتقال لأبناء الكتلة الصلبة من المجتمع السوري خلال الثلاث عشرة سنة المنصرمة حتى نحكم على هؤلاء القتلة والدور الذي لعبوه في تدمير سورية التي لم ولن ينتموا لها يوماً.
سيكون الثامن من كانون الثاني (يناير) 2014 فجراً جديداً أطل على السوريين حاملاً على كاهله عذاب خمسين عاماً تجرع خلالها أهل سوريا السم بيد أبنائهم وقادة بلدهم الذين من المفترض أن يكونوا مؤتمنين عليهم وعلى بلدهم، لكنهم أبوا إلا أن يخرجوا من حياة سوريا والسوريين يجرون ثوب الخزي والعار إلى المكان الذي يليق بهم مع القتلة والمجرمين وخونة الشعوب. إن هروب بشار الأسد بهذه الطريقة المذلة التي لا تليق حتى بمدير مؤسسة بسيطة يدل وبشكل واضح على ما كنا نتحدث به عن شخصيته وأمراضه النفسية وتصرفاته الصبيانية بل وشعوره بعقدة الدونية والنرجسية حتى أمام أفراد أسرته نتيجة علاقته السيئة مع والده الذي لم يكن يعيره أي اهتمام إلا بعد مقتل شقيقه باسل في حادث سير مفتعل، حيث فرضت الظروف وإصرار حافظ الأسد على توريث الحكم لأحد أبنائه تهيئة بشار لاستلام مقاليد الحكم نتيجة عدم أهلية شقيقه مجد المدمن على المخدرات والذي مات بسببها، ورعونة شقيقه الآخر ماهر قائد الفرقة الرابعة سيئة الصيت.
إقرأ أيضاً: مصر بين السلاح الأميركي والصيني
لقد ترك الأسد وطاقمه إرثاً ثقيلاً على كاهل الشعب السوري وعلى من سيحكم سوريا من بعده. فالشرخ الكبير النازف بين مكونات الشعب السوري من جهة وبين الطائفة العلوية من جهة أخرى لن يندمل بسهولة، فحجم الممارسات الإجرامية التي سمح بها الأسد بممارستها من قبل طائفته ومؤيديه على الشعب السوري فاق التصور، فالسجون تحكي قصصاً لا يمكن أن يتصورها عقل بشري. ولعل ما ظهر على الإعلام منذ سقوط الطاغية جزء يسير من حقيقة ما حدث في معتقلات الأسد. كما أن عدد المفقودين والشهداء والجرحى أصحاب العاهات الدائمة والمهجرين والنازحين، كل هذه المصائب مجتمعة شملت أكثر من تسعين بالمئة من الشعب السوري، ناهيك عن الحياة المعاشية المرعبة للمواطن السوري الذي يعيش بمعدل عشرة إلى عشرين دولاراً شهرياً، مما يدلنا على حجم الكارثة التي حلت بالشعب السوري. وبالرغم من حجم المأساة التي خلفها الأسد ونظامه، إلا أن الشعب السوري قادر على استعادة بلده وبنائها وترتيب مستقبلها بسواعد أبنائها المخلصين. وهذا يمكن أن يتطلب زمناً ليس قصيراً وجهداً استثنائياً بشرط تكاتف النخب السورية الوطنية والسماح لها بقيادة مرحلة البناء والتغيير من قبل أصحاب القرار في العالم. ومما لا شك فيه أن السوريين يعولون على دور عربي استثنائي يحتضن رجال الدولة والمخلصين القادرين على تنفيذ هذه المهمة الصعبة وتعزيز روابط العروبة ومنع التيارات العابرة للحدود من إبعاد الشعب السوري عن جذوره وحاضنته العربية. وهذا يتطلب من العرب المبادرة وبشكل سريع لاحتواء سوريا أرضاً وشعباً وقيادةً. فالخطر المحدق بالأمة العربية ينطلق من سوريا، فمن غير المعقول أن نتخلص من مشروع عبر الباب ويدخل لنا مشروع آخر عبر النافذة. تنبهوا واستفيقوا أيها العرب لقد طغى الخطب حتى غاصت الركب.
التعليقات