متحف كتانيا الإيطالي وذاكرة العراق الحائرة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ألقيت رحلي، قبل سنوات، في مدينة كتانيا الواقعة على حافة إيطاليا الجنوبية المحاذية للبحر الأبيض المتوسط، ضمن جزيرة صقلية الجميلة. وبعد جولة بين أزقتها ومسارحها وكنائسها القديمة، وجدت نفسي أمام قلعتها التاريخية المعروفة، باسم قلعة سفيفو دي كاتانيا، التي شيدت في القرن الثالث عشر الميلادي، لتصبح فيما بعد مقر إقامة الإمبراطور الروماني فريدريك الثاني وغيره من الملوك، ولكنها تحولت في القرن الماضي إلى متحف يتجه إليه زوار جزيرة صقلية القادمين من كل حدب وصوب.
أول ما يتبادر إلى ذهن الزائر، وهو في طريقه إليه، سؤال: ماذا يقدم المتحف لرواده؟ المدينة التي تحتويه، تغفو منذ أكثر من عشرين قرناً في أحضان التاريخ، وهي تحمل على واجهات بناياتها بصمات الأقوام الذين مروا بها، وتتزين أبوابها ونوافذها العتيقة بنقوش ورسوم ونصوص الفنانين والفلاسفة ورجال الدين والسياسة الذين عاشوا فيها..
ولكنك، ما ان تضع قدمك داخل المكان، حتى تكتشف أنك أصبحت في عالم لا علاقة له بالماضي أو الحاضر أو المستقبل... عالم يعيش أصحابه فيه، لوحدهم، بآلامهم ومصائبهم، دون رابطة مع العوالم الأخرى!
في الجهة اليسرى من المتحف، هناك جناح كبير، أقيم بشكل خاص ليسلط الضوء على حياة مرضى "المصحات العقلية"، بتفاصيلها القاسية، من صراخ وبكاء وعويل وقلق وأرق ورواح ومجيء وضحك وعنف!!! نعم بتفاصيلها القاسية.
إقرأ أيضاً: دبي تغرق... وتطفو بفضل "مشروع القرن"!
على أحد الجدران، علقت لوحة مريض يتحدث مع نفسه، وفي قاعة مجاورة، نصب تمثال لرجل مختل العقل، منفوش الشعر، ممزق الثياب، تجاوره لوحة مريض "مأزوم"، يصوب بصره بثبات نحو الأسفل... وفي جهة مقابلة، انتصب حائط خشبي قديم فوق الأرض، تم نقله من مستشفى الأمراض العقلية في المدينة بعد هدمها وإعادة بنائها من جديد عام 1972، وقد علقت عليه صور المرضى منذ اليوم الأول لدخولهم إلى المستشفى!
تتوسَّط المكان قاعة دائرية، ثبتت على احد جدرانها شاشة تلفزيونية كبيرة، تعرض فيلماً وثائقياً عن المسيرة اليومية لأحد المجانين تتخلله موسيقى، تثير في نفوس الزائرين مشاعر الحزن والشفقة والحب تجاه هذه الشريحة...
سأل أحدهم دليل المتحف: لماذا يهتم متحفكم بالمضطربين والمجانين؟ فأجاب: لأنَّ الجنون والقلق والكآبة أشكال من العذاب الخفي والمزمن، يكابدها الإنسان رغماً عنه، ودون أن يشعر الآخرون به (في كثير من الأحيان). عندما يظلم شخصٌ ما شخصاً آخر، فإنَّ هذا الظلم والعذاب الناتج عنه، واقعان تحت أنظار المجتمع، ولكن عذابات المجانين، غالباً ما تكون بعيدة عن أنظار المجتمع، وغالباً ما يعجز "المضطربون نفسياً" عن إفهام الآخرين بشدة معاناتهم!!
إقرأ أيضاًَ: قيلولة معطرة في "كَراس"!
وفي إحدى قاعات المتحف، هناك جناح وجد خصيصاً ليجسد معاناة فقراء، وقعوا ضحايا لاستغلال الأقوياء في المجتمع!!... لوحة "عازفة موسيقى متجولة" تجر خلفها أطفالاً بؤساء، ولوحة "خادمة" تقبض من رجل أجراً زهيداً، وتصوب بصرها بعيداً عن أختها التي تتضور جوعاً، وهلم جراً!!!
هنا يقبع "الإنسان" في زوايا الحياة المظلمة، وفِي هذا المتحف تسلط "الإنسانية" أنوارها الكاشفة، على خفايا حيوات البشر... وهنا تتجلى مظاهر "قوة الدولة" في توظيف الفنون لإدارة التنوعات الاجتماعية ورصها في كيان واحد هو الوطن!!!
في عزة "الإنسان" تكمن عزة الأمم، وفي قهر "الإنسان" يكمن خراب الأمم واندثارها.
إقرأ أيضاًَ: الذاكرة أم العودة إلى الزمن الجميل؟
اجتاحتني نوبة من الحزن عارمة، وأنا أتجول بين أروقة هذا المتحف، ليس "لمعاناة" المجانين والفقراء عندهم، لأن لهم دولة ترعاهم لا محالة! وليس "لمعاناة" المجانين عندنا، لأنَّ الدهر قد حكم عليهم بالجنون أو الفقر، لوجودهم في "المكان الخاص" "والزمن الخاص"! بل لأصحاء عندنا، أصابهم "الطمع" بدائه، وسلخ "الإنسان" من دواخلهم.
تذكرت أم الشهيد، التي رمت حجابها في مجلس النواب، وتذكرت أم شهيد آخر، افترشت الأرض والتحفت السماء بلا مأوى، وتذكرت معاقي الحروب المتعددة القابعين في بيوتهم...! تذكرت أشياء أخرى، "واضطربت" وهلة، ثم وليت وجهي صوب العراق، الذي لا تمثل فيه الذاكرة لحد الآن أهمية في السياسة والمجتمع.