اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً موجة جدل على أثر تقديم المطربة غزلان أغنية تعود إلى العهد السابق، وتحديداً فترة الحرب العراقية الإيرانية، استهلّتها بكلمات حماسية:

الكَاع امك كالتلي الكَاع وأنت وليدي
عريس وربعه يزفونه وعرسك عيدي

وهو ظلال لجدل ينشط بين الحين والآخر بين أوساط النخب العراقية تحت عنوان تهكمي "الزمن الجميل"، وخصوصاً خلال فترات استذكار مظالم النظام السابق أو عند ظهور شعارات أو أهازيج مستمدة من أدبيات ذلك العهد.

وقد تباينت الآراء حول تفسير هذا السلوك، حيث اعتبره البعض فعلاً ارتدادياً يظهر حالة سطحية وشعبوية من الحنين السلبي إلى ماضٍ حالك في سواده بتأثير وتشجيع من بقايا النظام السابق، ويربط البعض الآخر ما يحدث بفشل النخبة السياسية التي وصلت إلى السلطة في العراق بعد 2003 في تحقيق آمال الشعب بالرفاهية والحريات، لدرجة جعلته ملتفتاً نحو الماضي بلا بوصلة اخلاقية وعقلانية.

وفي الوقت الذي لا تخلو فيه عمليات استحضار الماضي من إشارات سياسية حول الحاضر، فإنَّ حالة الحنين إلى الماضي لا تمثل ظاهرة عراقية خالصة بل هي حالة عامة من الارتباط الوجداني بالماضي، تتملك الأفراد والجماعات بشكل بعيد عن العقلانية، الأمر الذي يستوجب فهمها وعدم ظلم مظاهرها التعبيرية بأي شكل من الأشكال.

فعندما نسمع ترديد بعض مقاطع غنائية أو شعارات مادحة للنظام السابق من قبل شرائح جماهيرية يفترض أن تكون قد عانت من سوء السياسات الماضية، فإنَّ ذلك لا يعني بالضرورة تزكية هذا الجمهور لذلك النظام أخلاقياً وسلوكياً، ولا قبوله عودة الاستبداد، بقدر ما يعني حاجة الفرد والجماعة إلى "جسر نفسي" يربط بين الماضي والحاضر.

الشعور بوحشة الحاضر مهما كان مريحاً يدفع الفرد إلى السفر للماضي في الخيال بالرغم من تعاسة أيامه.

يعرف هذا الحنين إلى لماضي (Le Passéisme) بسلوك تفضيل أو تجميل الماضي مقارنة بالحاضر، واعتبار قيم وعادات ونماذج حياة الفترات السابقة، أكثر قرباً للنفس من مثيلاتها الحالية، ويعرفها القاموس الفرنسي لاروس بـ"الانكماش على قيم الماضي".

الكثير من مواطني ألمانيا الشرقية سابقاً والاتحاد السوفييتي السابق، على سبيل المثال، يشعرون اليوم بحنين إلى الماضي، بالرغم من تعاسة هذه العهود ورفاهية العهود الحالية.

الحنين والرغبة في العيش بالماضي، يدفعان كذلك بعض الأغنياء لاقتناء سيارات قديمة قليلة الرفاهية والمميزات (مع قدراتهم على شراء سيارات حديثة) والتجول بها مستعرضين أمام الناس انغماسهم في الماضي "المتخيل" كمظهر من مظاهر الثراء.

وقد نهل بعض الشعراء من "مستودع العواطف" هذا وكتبوا عن ماضٍ جميل، طالما كافح أصحابه (أصحاب هذا الماضي) لتغييره. ونجد في هذا المجال، أشخاصاً يحنون إلى فترات لم يعيشوها في السابق، وتهتز قلوبهم لأماكن لم يمروا بها من قبل، ويطربون لسماع موسيقى لم يسمعوا بها أبداً! وهي حالة قديمة، بقدم الإنسان على الأرض.

كتب الشاعر الروماني فاريوس كأتون عام 178 قبل الميلاد: "هل هي غلطتي إذا لم أعش في العهد الذهبي؟ كان من الأفضل أن أولد عندما كانت الطبيعة أكثر هدوءاً.. أي حظ قاس، هذا الذي جعلني أصل متأخراً، أنا ابن جنس المستضعفين".

لفترة طويلة، كانت النظرة لهذا النوع من التفكير سلبية، ولكن الدراسات النفسية الحديثة حول العواطف، اتجهت نحو فهم هذا "التجميل للماضي القبيح" وتأهيله بعيداً عن العقلانية، كما بينته الاستنتاجات البحثية التي وصلت إليها مجموعة من الباحثين في الكلية الملكية بلندن عام 2019.

يبعث الحنين للماضي لدى الكثير من الناس مشاعر ارتياح، وتلعب هذه المشاعر دوراً أساسياً في تعزيز الهوية الشخصية من خلال تأمين الاستمرارية (النفسية) بين الماضي والحاضر. الخيال يقتلع الناس من حاضرهم ويحملهم نحو الماضي بعيداً عن الحقيقة، ويسمي الأشياء بغير أسمائها (الماضي الجميل)، والذاكرة تنقل الناس إلى ماضيهم على بساط العقلانية وتقاوم النسيان (الطاغية يقتل مرتين: الثانية بالنسيان).

في هذا المجال، تتطلب عملية بناء الدولة موازنة الحنين إلى الماضي "المتخيل" و"الشعبوي" إنشاء "ذاكرة جمعية" هادفة ومؤسساتية من جهة، وفهم اتجاهات العواطف الفردية والجمعية دون الحكم عليها.