حين يتحول الموقف إلى "قيمة"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في عام 2007، رفضت الصحفية الفرنسية، فرانسواز فريسوز وزميلتها ماري ايف مالوين، وسام الشرف من الحكومة، وكلتاهما تعملان في القسم السياسي لجريدة "لوموند" الفرنسية، وفسرتا سبب الرفض بـ "قناعتهما بعدم تقديم اي شيء مهم خلال مسيرتهما الوظيفية يبرر هذا التكريم".
ورفض عالم الاقتصاد الشهير فرانسوا توما بيكيتي، صاحب كتاب "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" هو الاخر تكريم الحكومة له معللا قراره "بانه يعتقد بانه ليس من مهام الحكومة ان تقرر من يستحق ان يكون شريفا"!
ويعتبر رفض تكريمات السلطة من قبل الشخصيات العلمية والاجتماعية سلوكا مألوفا في المجتمعات الديموقراطية، ينبثق في جوهره من حرية التعبير والرغبة في توجيه انظار الراي العام الى بعض القضايا او تاكيد استقلالية المثقف او رفضه لسياساتٍ يراها مضرة للصالح العام، وهي امور تؤدي بمجملها الى تقويم مسيرة الدولة وتمييز مساحات "الفعل ورد الفعل" بين الحكومة والمجتمع المدني. وتمتلك النقابات في مجال نقد السلطة والبعد عنها، تقاليد متوارثة، تفيد في تأمين استقلالية وكفاءة حركاتها في المجتمعات، واعتاد قسم كبير من العلماء والمثقفين على استعراض رفضهم لتكريمات حكوماتهم، كما فعل الفيلسوف سارتر برفضه جائزة نوبل للاداب، مبررا ذلك "بعدم استحقاق اي صحفي او كاتب لتكريم اثناء حياته لانه يمتلك القدرة والحرية على تغيير كل شيء، مضيفا بان "جائزة نوبل رفعتني إلى مقام، في الوقت الذي لم اكمل فيه منجزاتي ولم استخدم كل حريتي للعمل والتزام القضايا".
الكاتب النيجيري تشنوا اشيبي المعروف عالمياً بروايتيه "الأشياء تتداعى" و"كثيب النمل في السفانا" رفض بدوره، تكريم حكومته مصرحا بـ"انني اراقب الوضع في نيجيريا بمزيد من الحذر والرعب واراقب الفوضى في ولاية أنامبرا وفيها عصبة من المرتدين المتبجحين العازمين على تحويل وطني إلى إقطاعية مفلسة وبلا قانون". و"أسجل خيبة أملي واحتجاجي برفض التكريم العالي الممنوح لي في قائمة التكريمات لعام 2004".
كتاب وعلماء اخرون سلكوا النهج نفسه لتمرير رسائل قيمية نحو الرأي العام والسلطة في المراحل المفصلية من مسيرات مجتمعاتهم على طريق الديموقراطية مثل جورجساند كوستاف، كي دو موباسانت، كلود مونية، ألبيرت كامو وسيمون دي بورفوار.
جريدة "الكانار انشينيه" التي تأسست عام 1905 بمهمة اساسها نقد السلطة بصورة ساخرة، جعلت "الاستقلالية التامة" احد محاور توظيف صحفيها الجدد من خلال ادراج فقرة تنص على (امتناع الصحفي عن استلام تكريمات السلطة) في عقود التوظيف.
وقد قاد توجهها الساخر هذا وصرامتها المهنية الى كشف الكثير من ملفات فساد واخطاء الادارات الفرنسية المتعاقبة وادى الى سجن وانتحار عدد من السياسين عبر مسيرتها الطويلة.
ويحكى في هذا المجال، ان احد الصحفيين قد ابلغ، ذات مرة رئيس التحرير في الفترة الاولى لانطلاق الجريدة عن ترشيحه للحصول على وسام الشرف، وحين سأله الرئيس عن سبب الترشيح، اجاب: "لانهم يقولون بانني استحقّ ذلك"! وهو ما دفع رئيس التحرير الى التصريح فورا قائلا: "ولأنك تستحق تكريماَ من السلطة، ستترك الجريدة!".
تعدد هذه المواقف وذكر دروسها في الصالونات الثقافية وقاعات الدرس وادراجها في الخطابات السياسية والاجتماعية شكل عاملا من عوامل تعزيز المنظومة القيمية وتقويم اداء الحكومات وترسيخ التجارب الديموقراطية. وهي سلوكيات نخبوية تتلاقى الى حد كبير مع التعريف الذي وضعه ادوارد سعيد للمثقف في كتابه "المثقف والسلطة" (هو الذي يملك ملكة المعارضة وملكة رفض الركود، وهو الذي لا يرضى بحالة حتّى يُغَيِّرها، وإذا غيَّرها بدأ يحلم بمواصلة التغيير. ويكون راضيا عن نفسه فقط في لحظة الإبداع، وفي ما عداها، فهو غير راضٍ ورافض وقلق..).