كتَّاب إيلاف

الاستاذ الجامعي المغربي والخبير في الشؤون الامنية إحسان الحافظي يكتب لـ"إيلاف"

كيف أعاد ملك المغرب بناء العقل الأمني؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

قبل 25 سنة من الآن أعاد العاهل المغربي الملك محمد السادس بناء تصوره للسلطة. لم تمضِ سنة على توليه العرش حتى أعلن المفهوم الجديد للسلطة في خطاب موجه إلى الولاة ورجال السلطة في أكتوبر 1999. يومها تحدث الملك محمد السادس عن كون مسؤولية السلطة في مختلف مجالاتها هي أن تقوم على حفظ الحريات وصيانة الحقوق وأداء الواجبات وإتاحة الظروف اللازمة لذلك على النحو الذي تقتضيه دولة الحق والقانون. بدت هذه المفاهيم جديدة قياسا بتقاليد الدولة وبقاموسها السياسي والنواميس التي حكمتها لسنوات. وشكلت خلخلة في البنية التقليدية لتمثلات السلطة بالمغرب، فكان لزاما أن يكون لهذا الخطاب صدى على مؤسسات إنفاذ القانون، وفي مقدمتها المؤسسة الأمنية.

بروز الفاعل الأمني
برز الفاعل الأمني خلال سنوات حكم الملك محمد السادس في ثلاث لحظات تأسيسية: خطاب المفهوم الجديد للسلطة سنة 1999 ثم لاحقا بإعلان دسترة مفهوم الحكامة الأمنية بموجب التعديل الدستوري لسنة 2011، وفي مرحلة ثالثة مع خطاب العرش لسنة 2017 حيث حضرت الفكرة الأمنية بقوة وبشكل مكثف أعاد صياغة مفاهيم النظام العام وحقوق الإنسان وسلامة العمليات الأمنية.

طيلة هذه المراحل الثلاث كان مفهوم السلطة يتجدد ويتطور في تفاعل مع التحولات التي يعرفها المغرب وفي ارتباط بأولوياته الداخلية وتحديات محيطه الإقليمي.

خلال هذه المرحلة بدت المؤسسة الأمنية في المغرب أنها أكثر قدرة على التأقلم مع خطاب الإصلاح والتخليق والجاهزية لتحقيق الأمن وحماية المواطنين، حيث يشكل الثقل الملكي في تاريخ بناء هذه المؤسسة، تنظيما وتشريعا وتوجيها، عاملا محفزا على تطوير العمل الشرطي وتعزيز وظائفه التقليدية في إنفاذ القانون.

وفي واحدة من أخطر اللحظات الأمنية، شكلت التهديدات الإرهابية واحدة من التحديات الكبرى التي واجهت الأجهزة الأمنية في ظل حكم الملك محمد السادس. أحدثت التفجيرات الأرهابية ليوم 16 مايو 2003 التي هزت الدار البيضاءالعاصمة الاقتصادية للمملكة، اختراقا مفاجئا في جدار الاستثناء المغربي، الذي جعل من الوسطية والإسلام المعتدل، أدوات لمواجهة تطرف نشأ وتدحرج من الشرق نحو العالم. لقد ابانت الهجمات أن مواجهة الفكر وحده لا يكفي، بل أصبح لزاما تبني استراتيجية أمنية في مجال مكافحة التطرف العنيف، تقوم على الوقاية والاستباق، وهو ما شكل تحولا منهجيا في عمل الأجهزة الأمنية بالمغرب، سمح بتحييد الكثير من المخاطر على رأسها الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، كما تعاطت المصالح الأمنية مع أزمات داخلية تهدد النظام العام، تنوعت بين المطالب الاجتماعية التي اختبأت وراءها مظاهر العصيان المدني، والحركات الاحتجاجية التي تزايدت بفعل فشل التدبير العمومي، ودعوات الإصلاح السياسي والدستوري إبان ما سُمي ب" الربيع العربي".

مواجهة التهديدات الناشئة
بعد عقدين تحولت المقاربة الأمنية الوطنية في مجال مكافحة الإرهاب إلى نموذج يُحتذى به، مقاربة تقوم على تقدير المخاطر واستباق وقوعها من خلال رصد وتتبع نشاط الجماعات المتطرفة وارتباطاتها الخارجية، ومواكبة الاستباق بالوقاية عبر إجراءات تشريعية واجتماعية وسياسية مصاحبة مهمتها تجفيف منابع تنشيط الإرهاب وتمويله. لقد نجحت هذه الاستراتيجية في تخفيض منسوب التهديدات الأمنية داخليا.

خلال الفترة ما بين 2003 و2024 نجحت المصالح الأمنية في إجهاض نحو 200 مشروع إرهابي انتهى إلى اعتقال مائات الأشخاص، استفاد منهم 322 سجينا من البرنامج التأهيلي "مصالحة" الموجه لسجناء قضايا الإرهاب.

وفق تقرير حديث، وضع تصنيف لـ"معهد الاقتصاد والسلام" المغرب ضمن خانة الدول الآمنة حسب مؤشر الإرهاب الدولي GTI.

إقليميا، وفي محيط جغرافي متوتر، نجحت المملكة في بلورة مشروع أمني خاص، قادر على مواجهة التحديات الأمنية والمخاطر العابرة للحدود. يبني المغرب هذا المشروع في القارة الإفريقية على الربط بين الإرهاب والانفصال، ويجعل من مواجهة هذه الثنائية مدخلا للأمن والاستقرار في الساحل الإفريقي تحديدا، حيث بدأت تنتشر الجماعات المتطرفة مستفيدة من انتشار الدولة الفاشلة وغياب التنسيق الأمني وظهور الجماعات الانفصالية.

ميدانيا، أبانت الخلايا الإرهابية التي جرى تفكيكها داخل المملكة منذ 2018 وجود ارتباطات لأفراد هذه الخلايا مع تنظيمات متطرفة تنشط في الساحل، هذا المؤشر جعل المصالح الأمنية المغربية نقطة ارتكاز في كل أشكال التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب في هذه المنطقة.

في مسار موازٍ، سعت المملكة إلى ترسيخ قواعد الحكامة الأمنية وضمان سلامة العمليات، وقد شكلت توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة أبرز مداخل التحول الذي شهدته المؤسسة الأمنية بالمغرب، حيث سيتم اعتماد جملة من الإصلاحات همت بالأساس الإصلاح التشريعي والتكوين المستمر على حقوق الإنسان للموظفين المكلفين إنفاذ القانون، وتعزيز التواصل وتخليق المرفق الأمني ووضع العمليات الأمنية تحت رقابة القضاء والبرلمان، تكريسا لقاعدة الحكومة مسؤولة بشكل تضامني عن العمليات الأمنية وحفظ النظام العام وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان وإخبار البرلمان والجمهور بالنتائج والتدابير التصحيحية. لقد جاء ترشيد الحكامة الأمنية في سياق تعزيز تجربة الانتقال الديمقراطي.

الملك محمد السادس لدى تدشينه بناء مقر المديرية العامة للامن الوطني

ديبلوماسية أمنية ناجحة
استخبار في كل مكان، تعاون وتنسيق مشترك مع كبريات أجهزة المخابرات العالمية التي أصبحت تُقبل على العرض الأمني المغربي بفضل نجاعتهوقدرته على إدارة المخاطر العالية. اليوم، ترتبط الأجهزة الاستخباراتية المغربية بالعديد من اتفاقيات التعاون مع دول أوربية وعربية ومع الولايات المتحدة الأمريكية.

عمليا، ساهم المغرب في تحييد الكثير من المخاطر الإرهابية التي استهدفت شركاء أمنيين. ففي 11 مايو 2004 ساهمت المصالح الأمنية في التحقيقات التي تلت تفجيرات مدريد، وتحديدا في منطقة "ليغانيس" جنوب العاصمة الإسبانية. وبعد الهجمات التي تعرضت لها باريس سنة 2005، والتي تبنتها الجماعة السلفية للدعوة والقتال، فتحت المصالح الأمنية المغربية تحقيقات موازية مكنت الأمن الفرنسي من تفكيك بنيات مرتبطة بهذا التنظيم. وفي أوروبا الشمالية ساهمت تبادل المعلومات الاستخباراتية مع المغرب في إجهاض هجمات إرهابية على الدانمارك في 2009، وبعدها في إفشال استهداف بابا الكنيسية الكاثوليكية في روما ومخفر للشرطة تواليا سنتي 2010 و2013. وشكلت هجمات "باريس" سنة 2015 واحدة من أقوى لحظات التفوق الاستخباراتي المغربي حين حددت الأجهزة الأمنية مكان اختباء أحد منفذي الهجمات. وبعدها في سنة 2016 اعترفت الداخلية الألمانية بخطأ تجاهل المصالح الأمنية الألمانية لتحذيرات أمنية مغربية من هجمات برلين.

في صيف 2017 ساهمت المصالح الأمنية في التحقيقات التي تلت هجمات برشلونة الإسبانية.

وفي فبراير 2021 ، أشاد مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي ووكالة الاستخبارات المركزية بتعاون المخابرات المغربية في مكافحة الإرهاب عقب مساعدة الأخيرة واشنطن في توقيف جندي أميركي مرتبط بتنظيم "داعش".

كرونولوجيا التعاون الأمني بين المغرب وكبريات الأجهزة الاستخباراتية في العالم، مكن الأجهزة الأمنية من تكوين ذاكرة استخباراتية قوية تجعل من الرباط اليوم عامل استقرار في محيط إقليمي متوتر. فالتعاون الأمني لم يعد مقتصرا على مكافحة الإرهاب بل امتد إلى مختلف الأنشطة الإجرامية العابرة للحدود التي تشكل مصدر تمويل لنشاط الجماعات المتطرفة، بعد أن نقلت الأخيرة أنشطتها من بؤر التوتر التقليدي في سوريا والعراق إلى منطقة الساحل الإفريقي الذي أصبح "مجالا أمنيا حيويا" للاستقرار الإقليمي والدولي وفق تقارير أمنية.

بفضل عمل الأجهزة الأمنية وتنويع الشراكات الدولية نجح المغرب خلال العقد الأخير في تقعيد مقاربة أمنية وقائية واستباقية ساهمت في تعزيز ريادة المملكة كعامل استقرار إقليمي وكشريك موثوق، وهو ما سمح بإعادة تنويع المؤسسة الأمنية في قلب حسابات شراكات رابح ـ رابح مع دول فاعلة ومؤثرة في صناعة القرار الدولي.

وجدت المملكة في "الدبلوماسية الأمنية" فكرة مغرية لتعزيز مكانتها الدولية، ووجد الملك محمد السادس في شخص عبد اللطيف حموشي، الذي يحظى بثقته وبتوشيح كبريات الأجهزة الأمنية الأوروبية، الرجل المناسب لتنزيل الإرادة الملكية لبناء "براديغم" عمل الأجهزة الأمنية بمختلف مستوياتها.

* إحسان الحافظي: استاذ جامعي، خبير في الشؤون الامنية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف