الوعي الإعلامي: لماذا يجب أن نوليه بالغ الأهمية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
العالم اليوم، وخاصة عالم الإعلام، يمر بثورة غير مسبوقة الأهمية، سينافس تأثيرها تأثير الثورتين الزراعية والصناعية، وما يزيد الأمر أهمية هو أنها لا تزال في بدايتها. أتحدث عن ثورة المعلومات؛ لقد أصبحت المعلومات متوفرة للجميع حول أي موضوع تقريباً، ونحن غارقون فيها يومياً، بكميات تكاد تكون غير قابلة للإدراك وبسرعة الضوء. كما قال الشاعر مئير آرئيل: "الموكب يسافر بدون توقف. نزلت منه اليوم، وقد مرت سنتان، وها أنت، بقيت في الخلف".
باستثناء بعض الأفراد، نحن جميعاً منغمسون في هذه الفوضى المعلوماتية، ومتأثرون بخوف فقدان الفرص (FOMO). حجم المعلومات المتدفقة إلينا لا يترك لنا وقتاً أو فرصة للتعمق فيها أو فحصها بشكل نقدي.
وقد انضم مؤخراً عامل قوي جديد إلى الفيض الهائل من هذه المعلومات، وهو الذكاء الاصطناعي. هذه الأداة، بقوتها الهائلة، يمكن أن تجعل حياتنا أسهل بكثير، لكنها يمكن أيضاً أن تشوه إدراكنا للواقع، مما يدفعنا الى الاعتقاد بوجود واقع متخيل أو، الأسوأ من ذلك، واقع مزيف تم التلاعب به عمداً. باستخدام هذه الأدوات، يمكن وضع كلمات في فم شخص ما، واختلاق أقوال مقنعة لم تُقل أو لم تكن هناك نية لقولها، وإنتاج صور وفيديوهات مقنعة لأحداث لم تحدث. ويمكن أن يثير ذلك ردود أفعال مختلفة لدى الجمهور، بما في ذلك الغضب الجماعي، الخوف، اليأس، أو حتى خلق شعور زائف بالهدوء والطمأنينة.
إنَّ الخطر الرئيسي في هذا الوضع هو التغيير المتعمد للوعي والسيطرة على عقول المواطنين بطريقة كانت حتى الآن في مجال العلم الخيالي. وهذا الوضع يركز القوة غير المحدودة تقريباً في أيدي قلة تتحكم في مصادر المعلومات والتفاعلات عبر الإنترنت، كما يمكن أن نرى ذلك في منصات مختلفة مثل إكس وتيكتوك وفيسبوك.
الفيلسوف هربرت ماركوزي كشف في ستينيات القرب الماضي عن الأساليب التي تستخدمها الأنظمة الرأسمالية المتطورة للتحكم بوعي المواطنين وجعلهم طائعين دون الحاجة إلى القمع الجسدي العنيف، كما هو الحال في الأنظمة الشمولية الطغيانية. أحد هذه الأساليب هو تحويل المواطنين إلى مستهلكين مفرطين، وغمرهم بالمنتجات وإقناعهم بشراء أشياء لا يحتاجون إليها حقاً، مما يجعلهم يعملون أكثر ويخلق لهم وعياً زائفاً بالسعادة المرتبطة بامتلاك الأشياء.
وقد توسعت نظرية ماركوزي الخاصة بالأساليب المادية للتحكم لتشمل أيضاً عالم الدعاية والإعلام كمثبط للوعي الحقيقي. هذه المفاهيم، التي كُتبت في القرن الماضي، تكتسب أهمية متجددة اليوم، ويمكن توسيع رقعتها لتشمل ثورة المعلومات الجارية. اذ أصبحت أدوات التحكم بالوعي أكثر قوة بشكل مضاعف. كل قطعة من المعلومات التي تصل إلى المواطن يمكن مراقبتها وتعديلها لتناسب رغبات القوى المسيطرة أو قوى خارجية تسعى لزعزعة إدراك المواطنين للواقع والسيطرة عليه.
هذا الوضع بات قائماً بالفعل ويتصاعد يوماً بعد يوم. والمخاطر التي تكمن فيه للأنظمة الديمقراطية، ولحرية الفكر والتعبير، وللإرادة الحرة، هائلة. ويجب على كل شخص يهتم بالحفاظ على نمط حياة حر وديمقراطي أن يتحرك لتحجيم مخاطر هذه الثورة، خاصة بالنسبة إلى الجيل الصاعد الذي ينشأ في ظلها، والذي قد يصل إلى مرحلة يرى فيها واقعاً طبيعياً، ويبلور وعيه وفقاً لذلك.
إقرأ أيضاً: غزة وإسرائيل إلى أين؟
هذا الوضع يفرض مسؤولية خاصة على القائمين على تربية الأجيال الناشئة لتزويد أبنائها بالأدوات الفكرية لمواجهة هذه المخاطر. لم يعد من الممكن الرجوع إلى الوراء وتقييد قوة المنصات الإعلامية الجديدة، وقد علمنا أنَّ المبادرات من هذا النوع، بما في ذلك الإجراءات الإدارية والقانونية الصارمة مثل الغرامات الكبيرة والحجب، باتت غير فعالة، ذلك لأنَّ التكنولوجيا تتقدم بسرعة أكثر من سن القوانين والأنظمة، وهناك طرق عديدة للالتفاف عليها.
ولذا، ما يمكن فعله هو تربية الشباب على أن يكونوا نقديين في استهلاك الإعلام، أن يشككوا حتى في ما يرونه بأمّ أعينهم، أن يتحققوا من مصادر المعلومات، وأن يبحثوا عن مصالح خفية في المعلومات التي يتلقونها. ويجب أيضاً تثقيفهم ليفهموا ويعرفوا قواعد الأخلاقيات الصحفية وطرق العمل الصحفي للتحقق من المعلومات، والتعرف على الانحرافات، والشك في أساليب الكتابة والتصوير المشبوهة.
إقرأ أيضاً: ما بعد الرأي القضائي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية؟
إنَّ المسؤولية عن هذا التثقيف الإعلامي تقع أساساً على عاتق الدولة والمؤسسة التعليمية. ومع ذلك، فإنَّ الصحفيين المحترفين، وجمعيات الصحفيين، ومجالس الصحافة، لديهم أيضاً دور حاسم في هذه التعليم، وعليهم أن يجندوا خبراتهم وحواسهم المطورة لاكتشاف التزوير والمصالح الخفية، لنقل هذه المعرفة إلى الجيل الناشئ. يجب إنشاء برامج تعليمية ومبادرات إثراء من هذا النوع بالتعاون مع وزارات التربية والتعليم وكليات الإعلام الأكاديمية، أو حتى بشكل مستقل. إنَّ هذه البرامج ضرورية لتوفير الدفاعات ضد خطر فقدان استقلالنا الفكري وبالتالي استقلالنا السياسي.
يجب أن نمنح هذا التعليم الأولوية والموارد، ويجب أن نجند خبراتنا وقدراتنا لهذا الغرض، لأنه حقاً يخص قيامنا كمجتمع حر.