الرأي القضائي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في لاهاي حول وجوب انسحاب إسرائيل من مناطق الضفة الغربية أو يهودا والسامرة، لاقى ردود فعل غاضبة واستنكارًا من قبل الحكومة الإسرائيلية وأوساط اليمين بطبيعة الحال، ولكن أيضًا من أوساط وشخصيات اليمين الوسط، بمن فيهم يئير لابيد رئيس المعارضة وبيني غانتس رئيس المعسكر المسمى بالرسمي.

رأي المحكمة الدولية لا يحمل في طياته أي صلاحية لفرضه على إسرائيل، إلا أنه قد يزيد من الضغوط الدولية التي ستواجهها في هذا المضمار، كما أنه يعيد إلى بساط البحث الدولي مسألة الضفة الغربية وقطاع غزة ومستقبل هاتين المنطقتين.

الاستنكارات والتنديدات لرأي المحكمة في إسرائيل لا يمكنها أن تخفي أو تموه المعضلة الأساسية التي تواجهها دولة إسرائيل منذ 57 عامًا، وهي: كيف يمكن الحفاظ على كونها دولة يهودية أو دولة الشعب اليهودي ودولة ديمقراطية في آن واحد، مع استمرار السيطرة على مناطق الضفة الغربية والاستيطان بها؟ وما هو الحل لهذه المعضلة من وجهة نظر المصلحة الإسرائيلية؟

الحكومات الإسرائيلية المتتالية تجنبت اتخاذ القرارات حول هذا الموضوع الشائك باستثناء حكومة إسحق رابين عام 1993، التي وقعت على اتفاق أوسلو الذي كان من شأنه أن يحل هذه المعضلة، إلا أن هذه الاتفاقيات لم يُكتب لها النجاح، والطرفان يُلقيان باللائمة عن فشلها على بعضهما البعض. وبالرغم من إحباط تطبيق هذه الاتفاقيات من قبل المتطرفين من الجانبين معاً، فإنها لا تزال تشكل مرجعًا تعود إليه كل الأطراف الدولية التي تريد حلًا للنزاع الدامي المتواصل. وقد امتنعت الحكومات المتتالية في إسرائيل عن ضم هذه المناطق رسميًا وفرض القانون الإسرائيلي عليها خشية من توابع هذا القرار على النظام الديمقراطي في إسرائيل ومن الانعكاسات التي كانت ستترتب عنه على الساحة الدولية. وكذلك في الطرف الآخر، لا تزال السلطة الفلسطينية تتمسك بما أُنيط بها من صلاحيات في هذه المناطق رغم هشاشة موقفها وشعبيتها لدى السكان الفلسطينيين. فكل الحلول التي تم طرحها من قبل جهات دولية فيما بعد استندت إلى اتفاقيات أوسلو بما فيها الخطة التي طرحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

وكانت استطلاعات الرأي العام في إسرائيل ولدى الفلسطينيين في حينه قد أبدت تأييد الأغلبية للاتفاقيات، إلا أن الأحداث التي تلتها على أرض الواقع من نشوب الانتفاضة الثانية والعمليات الإرهابية من قبل الجهات المتطرفة الفلسطينية وتكثيف النشاط الاستيطاني من جانب أوساط اليمين الإسرائيلي، كل هذه الأحداث أسفرت عن التقاطب وزيادة التطرف لدى الشعبين، وهذا ما نراه اليوم مع صعود اليمين المتطرف في إسرائيل إلى الحكم من جهة، والشعبية الكبيرة التي تحظى بها حماس لدى الفلسطينيين من جهة أخرى.

إقرأ أيضاً: لماذا باءت كل محاولات إحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين بالفشل؟

الشغل الشاغل لدى الإسرائيليين هو ضمان الأمن والاستقرار في الدولة. والسواد الأعظم من الشعب لا يُولي أهمية كبيرة للاستيطان في المناطق حيث يعيش فيها حاليًا نحو نصف مليون من اليهود معظمهم في الكتل الاستيطانية الكبيرة التي دار الحديث عن ضمها إلى إسرائيل في إطار صفقة تبادل للأراضي. ولكن مجزرة 7 تشرين الأول (أكتوبر) أفضت إلى انعدام مطلق للثقة بالطرف الآخر، ولذا يكاد لا يوجد مواطن يهودي-إسرائيلي واحد يوافق حاليًا على ترك السيطرة الأمنية في المناطق للفلسطينيين أو لأي جهة أخرى. وعليه فلا أرى أن تكون هناك أي حكومة في إسرائيل في المستقبل المنظور ستوافق على سحب القوات الإسرائيلية من هذه المناطق.

إقرأ أيضاً: تفنيد المزاعم حول كون إسرائيل مشروعاً استعمارياً غربياً

أما لدى الطرف الفلسطيني، فقد تسبب هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) وتعرض إسرائيل لهجمات من جهات موالية لإيران وحتى من إيران نفسها إلى إحياء حلم القضاء على إسرائيل وإنشاء الدولة من "النهر إلى البحر" كما يُستشف من استطلاعات الرأي العام التي تُجرى لديهم، وذلك رغم الكارثة الكبرى التي جلبتها مغامرة حماس على قطاع غزة.

إذاً، ما نراه اليوم هو، وللأسف، المزيد من التطرف والتشبث بالمواقف لدى الطرفين، مما يُفسح المجال أمام قوى خارجية مثل إيران ووكلائها لاستغلال النزاع كذريعة لبسط الهيمنة على المنطقة. فالتاريخ أثبت أن الحل لأطول نزاع في العالم لا يكمن لدى الطرفين، بل إذا كان هناك حل، فهو سيأتي من خلال إقدام دولة عظمى كالولايات المتحدة على طرحه بالتعاون مع جهات دولية أخرى وإنشاء تحالف إقليمي للدول المعتدلة يضم إسرائيل بغية تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة. وهذا الأمر سيقع على عاتق الرئيس الأمريكي المقبل أياً كان.