مقالتي هنا عن جزء مهم من العالم الداخلي للإنسان، طالما أنَّ العالم الخارجي اليقظ الآن مليء بالشرور والضغينة والحروب والمطامع بين الإنسان وأخيه الإنسان، سواء تعددت الأجناس أو التأمت في جنس واحد وكأن الله كان يقول: "جعلناكم شعوباً وقبائل لتتخاصموا وتتنازعوا طمعاً وشراهةً واستحواذاً، لا لتتعارفوا".
ولنعد إلى موضوعنا البيولوجي حول النوم السرير:
حينما ينام الإنسان ويدركه النعاس يتحول إلى شجرة، وهذا الحال يشترك فيه بقية البشر بلا أي استثناءات، فهناك زرّ كهربائي في المخ ينطفئ في لحظة النوم فيسود الظلام وتسود الغيبوبة وتمر الشخصية بحالة غرق ويتحول الإنسان إلى شجرة، إلى نبات بدائي؛ إلى شيء تستمر فيه الحياة على شكل وظائف جسدية ليس إلا، كالتنفس وضخ الدم وبقية الوظائف البيولوجية.
لكن دورة الدم تجري والنفس يتردد والخلايا تفرز والأمعاء تهضم.. كل هذا يتم بطريقة تلقائية والجسد ممدد بلا حراك، تماماً مثل نبات مغروس في الأرض تجري فيه العصارة وتنمو الخلايا وتتنفس من أوكسجين الجو.
إنها لحظة غريبة يسقط فيها الجسد في هوة التعب والعجز، ويستحيل عليه التعبير عن روحه ومعنوياته الراقية فيأخذ إجازة بعيداً عن الوعيّ ويعود ملايين السنين إلى الوراء. إنه يعيش بطريقة بدائية كما كان يعيش النبات، إنها حياة مريحة لا تكلف جهداً.
إنَّ سر الموت يكمن في لغز النوم، لأنَّ النوم هو نصف الطريق إلى الموت. نصف الإنسان الراقي يموت أثناء النوم؛ شخصيته تموت وعقله يموت ويتحول إلى كائن منحط مثل الإسفنج والطحلب. يتنفس وينمو بلا وعي وكأنه فقد الروح. إنه يقطع نصف الطريق إلى التراب ويعود مليون سنة إلى الخلف.
يعود عقله الواعي إلى ينبوعه الباطن. وتعود شخصيته الواعية إلى ينبوعها الطبيعي الذي يعمل في غيبوبة كما تعمل العصارة في لحاء الشجر. ويلتقي الإنسان بخاماته الطبيعية؛ بجسده وترابه ومادته والجزء اللاواعي من وجوده.
الشعراء يقولون إن لحظات النهار سطحية لأن ألوان النهار البراقة تخطف الانتباه، ولحظات الليل عميقة لأن الليل يهتك هذا الستار البراق ويفك أغلال الانتباه فيغوص في أعماق الأشياء. ولحظة النعاس هي أعمق اللحظات لأنها تهتك ستاراً آخر وهو ستار الألفة.
النعاس يمحو الألفة بين البشر وبين الأشياء فتبدو غريبة مدهشة، مما يدعونا أحياناً إلى التساؤل ونحن ننظر حولنا في غرفة نومنا بين النوم واليقظة ونهمس: أين نحن؟
السياق الزمني في النوم غريب؛ إنه زمن آخر غير زمن الساعة؛ فالحلم قد يحتوي على أحداث سنة كاملة بتفاصيلها من حب إلى زواج إلى طلاق إلى جريمة ومع هذا لا يستغرق بحساب الساعة أكثر من ثانية. والعكس يحدث أحياناً، فتمر على النائم عشر ساعات وفي ظنه أن عقرب الساعة لم يتحرك إلا دقائق أو ربما هنيهات معدودة.
وهكذا فإنَّ الزمن يتخلص من قيود الساعة أثناء النوم ويخضع لتقدير آخر هو تقدير المخيلة التي توسع وتضيق فيه وفق ازدحامها بالحوادث والرغبات؛ إنه من صناعة النائم وخلقه فهو ذاتي صرف. النائم كالفنان الذي يؤلف قصة.. يخلق زمن القصة كما يريد.. ويعيش في قمقم خرافي من أوهامه.. يتمطى فيه ويصرخ بالرغبة التي يحبها في حرية مطلقة تصل إلى حد العبث.
ومعظم أحلامنا هي عبث في عبث وأمنيات مستحيلة ولكننا نعيشها كما نريدها ونحن نائمون. والنوم أرخص أنواع الحياة من حيث الكلفة، فمقدار السكّر والأوكسجين الذي يحتاجه النائم ليستمر في الحياة أقل بكثير من المقدار الذي يحتاجه في اليقظة.
والإنسان الذي يعيش مئة سنة بين نوم ويقظة يستطيع أن يعيش ثلاثمائة سنة إذا عمل وفق حسابه أن ينامها كلها. ومادة النوم رخيصة لأن الإنسان يقترب فيه من التراب ويعود إلى الآلية الكيميائية المتأصلة في خلاياه من بداية الحياة.
هكذا هو النوم بيولوجياً، على العكس مما قاله الشاعر العراقي معروف الرصافي للشعب النائم المستكين على الإذلال وغفوة النوم رغم صحوته وهو حيّ يرزق:
ناموا ولا تستيقظوا... ما فاز إلاّ النومُ
من شاء منكم أن يعيش اليوم وهو مكرّم
فليمسِ لا سمعٌ ولا بصرٌ لديه ولا فمُ
يبدو أننا نتصف بالحالتين معاً عند النوم الحقيقي بيولوجياً وعند اليقظة من سباته، فننام على الذلّ والاستكانة وارتضاء الظلم والخنوع والخوف والترهيب. والمأساة الكبرى أن نومنا قد أضحى نوماً كهفياً سائداً دون وخزة ضوء أو ركلة تحفزنا على اليقظة والصحو.
التعليقات