فؤاد جمجوم و«سينما الحوش»: رحلة الرواد وتحوّلات السينما السعودية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
شهدت السينما في المملكة العربية السعودية واحدة من أكثر الرحلات الثقافية إثارة وتحولاً في تاريخها الحديث: من بدايات بسيطة في أحواش جدة الشعبية قبل نحو ستين عامًا، مرورًا بفترة غياب امتدت قرابة ثلاثة عقود، وصولًا إلى عودة رسمية للسينما عام 2018 ضمن مسارات رؤية 2030 الثقافية. هذا الانتقال الكبير يعيدنا إلى ذاكرة المكان حين كانت الشاشات تضيء في أزقة الأحياء، وتجمع الجيران لحظة متعة جماعية تستند إلى أدوات بدائية وحبّ للفن.
ذاكرة شخصية تتقاطع مع ذاكرة المجتمععند متابعتي لقاءً مع أفراد من عائلة الجمجوم الجداوية، وتحديدًا الدكتور شهاب جمجوم، وكيل وزارة الإعلام السابق، زاد شعوري بأن تلك الأيام ليست مجرد ذكرى عابرة، بل جزء من التاريخ الاجتماعي والثقافي. فقد كان والدي، رحمه الله، يعرض لنا ولأطفال الحي في حي "الكندرة القديم" فيلمًا أسبوعيًا في حوش المنزل، باستخدام جهاز عرض وبكرات سينمائية يستأجرها — على الأرجح — من فؤاد جمجوم. ومن بين تلك الأعمال يبقى فيلم &"غزل البنات&" حاضراً في الذاكرة، كونه كان يثير الضحكات والمشاعر في نفوسنا مرات ومرات.
لا يكاد أحد من أبناء جيلنا في مكة ومحيطها إلا ويذكر اسم فؤاد جمجوم رحمه الله. فقد مثّل حالة فنية غير عادية في وقت لم تكن فيه البيئة الاجتماعية مشجعة، بل مترددة أو حتى معارضة للترفيه. بدأ جمجوم نشاطه في منتصف الستينيات بعرض أفلام بكرات 16 ملم ثم تطوّر إلى 35 ملم، مؤسسًا سلسلة من الأحواش السينمائية التي مثلت أحد أشكال مشاركة المشاهدين في تجربة سينمائية جماعية متميزة.
خلال هذه الفترة التي غلب عليها الرفض الاجتماعي والمواقف المحافظة التي اعتبرت السينما &"منكرًا&" أو &"حرامًا&"، خاض جمجوم تحديًا كبيرًا، مزج فيه بين شغفه بالفن وإيمانه بأثره الثقافي والاجتماعي، مدافعًا في الوقت نفسه عن حق الفن في الوجود وسط مجتمع يشكّك في جدواه.
كانت &"سينما الحوش&" في أحياء جدة، وعلى رأسها حوش الجمجوم في حي البغدادية، أكثر من مجرد مكان لعرض الأفلام، بل كانت مساحة اجتماعية تجمع الجيران والأصدقاء تحت سماء واحدة، ليتشاركوْا الضحك والتعليق والمشاعر، وكان المشهد السينمائي فيها حدثًا يوميًا ذا صدى في ذاكرة الأجيال التي عاصرت تلك الفترة، قبل أن يتراجع نشاط السينما لاحقًا ويأتي الإغلاق شبه الكامل للصالات.
لا يمكن قراءة تجربة جمجوم دون الإشارة إلى التطور الذي أضفى طابعًا مهنيًا على المشهد. فقد امتلك جمجوم ما يصل إلى ثمانية أحواش للعرض السينمائي في جدة، وافتتح في عام 1969 أول صالة عرض حديثة مطابقة المواصفات المعيارية، مضيفًا بذلك بُعدًا تقنيًا مهمًا لتجربة الجمهور.
كما دخل عالم الإنتاج السينمائي، حيث أنتج أكثر من ثلاثين فيلماً جمع فيها كبار نجوم السينما المصرية، واستضافتهم في جدة، مما جعل تلك الأعمال جزءًا من التكوين الثقافي للجيل السعودي في الستينيات والسبعينيات.
إلى جانب جمجوم، لعب عدد من الرواد دورًا بارزًا في البناء الثقافي والإعلامي للمشهد السعودي، ومن أبرزهم:
• محمد فوزي قزاز: المخرج السعودي الذي كان من أوائل من مارس الإخراج والإنتاج السينمائي على مستوى القطاع الخاص.
• معالي الشيخ جميل الحجيلان: وزير الإعلام في الستينيات، الذي عمل على إطلاق التلفزيون السعودي وتطوير البنية الإعلامية رغم المعارضة المجتمعية لكثير من مشاريعه.
• عبدالله المحيسن: واحد من أبرز الأسماء الفنية في المملكة والعالم العربي، الذي انطلق في السبعينات وقدم أعمالًا ذات أثر ثقافي عميق مثل &"إغتيال مدينة&"، &"الصدمة&"، &"الإسلام جسر المستقبل&" و&"ظلال الصمت&"، مؤمنًا بأن الفن رسالة للوعي والتغيير الاجتماعي.
على مدار العقود الماضية، طرأ تحول تدريجي في المواقف تجاه الفن والترفيه في السعودية. فالمجتمع الذي كان يعتبر السينما &"بدعة&" و&"حرامًا&" في الستينيات والسبعينيات، بدأ مع الثمانينات يشهد قبولًا حذرًا، قبل أن يتحوّل إلى مجتمع يحتفي بها كجزء من الهوية الوطنية والثقافة العامة. وقد جاء هذا التحول نتيجة جهود مستمرة من روّاد الفن، وتغير في الخطاب الديني والاجتماعي، فضلاً عن ارتباط الفن بالهوية الوطنية ضمن رؤية 2030 التي أعادت الاعتبار لقطاع الترفيه كاستثمار ثقافي واقتصادي.
من &"سينما الحوش&" إلى مهرجانات عالميةاليوم، ومع انطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، أصبح للمملكة تواجد بارز على الخريطة السينمائية الدولية، وهو ما يعكس جزءًا من إرث الرواد الذين مهدوا الطريق أمام التطور الثقافي هذا. ونقول لهم إن جهودهم أثمرت أخيراً، حيث تعمل الهيئة العامة للترفيه، كما أكد رئيسها الأستاذ تركي آل الشيخ، على تعزيز موقع المملكة التنافسي في قطاع الترفيه العالمي، لتكون من بين أول أربعة وجهات ترفيهية في آسيا، وبين أول عشرة على مستوى العالم.
من "سينما الحوش" المتواضعة في أحياء جدة، إلى مهرجان البحر الأحمر السينمائي العالمي، ها هي رحلة الفن والسينما السعودية تصل إلى محطة جديدة، تحمل في طياتها إرث الرواد وتطلعات المستقبل. إنها قصة كفاح وإصرار، تحولت من الهامش إلى المركز، ومن التهميش إلى الاحتفاء، لتؤكد أن الفنون ليست ترفاً، بل ضرورة إنسانية واقتصادية وثقافية، وجزءاً أصيلاً من هوية الأمم المتحضرة.