حين يتحول النَقد إلى مهزلة: أزمة الناقد وأزمة الناصرية معاً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم يستغرق الأمر طويلاً حتى جاء الردّ من صاحب الكتاب نفسه، آليكس راول، ليكشف حجم المفارقة التي تجاهلها كمال خلف الطويل عندما نَصّب نفسه قيّماً على &"شروط التأريخ&" و&"الإلمام بمادة البحث&". فالمُراجع الذي أمطر القارئ بقائمة من اثنين وأربعين &"خطأً&" تاريخياً، ارتكب مُتَهاوٍ منذ السطر الأول ثلاثة أخطاء فادحة، تجلت في المقام الأول في اسم المؤلّف وجنسيته، ومن ثم مكان إقامته، رغم أنّ هذه المعلومات مُدَوَنَة بدقة ووضوح.
المسألة، في هذا السياق، ليست بشخصية أو شكلية. إنها إشارة يُستَدَلُ بها. فهي تَدلُ على أن ما كُتب لم يكن مراجعة علمية بقدر ما كان نصاً دفاعياً عن سردية معينة، استخدم فيها الناقد التفاصيل ليس بهدف الكشف عن الحقيقة، بل لتفادي المساءلة.
ردّ راول، بهدوئه وسخريته المتأنية فاضحًا هذا المنهج. لقد اعترف بخطأين فعليين فقط، ومن ثم شرح كيف أن جزءاً كبيراً من &"الأخطاء&" هو ببساطة ادّعاءات غير صحيحة، مدعومة بانتقائية واستنسابية عند القراءة أو تجاهل لبعض المصادر والمراجع، لا بل انها ادعاءات يعود سببها لاختلاف في التفسير والسياسية.
لكن تجدر الإشارة إلى أن الملفت في ردّ المؤلّف ليس دفاعه التقني عن النص، بل تسليط الضوء عمداً، بوصفه الغائب الأكبر عن مراجعة الطويل، على الجرائم نفسها.
هنا تنكشف الأزمة الحقيقية.
فالناقد، الذي يدّعي الغيرة على &"دقة السرديات التاريخية&"، لا يجد ضرورة لإنكار مسؤولية النظام الناصري بشأن، اغتيالات سياسية عابرة للحدود، وحرب اليمن التي أودت بعشرات الآلاف، والتعذيب الممنهج في السجون، وعسكرة الدولة والمجتمع، والتأسيس لنموذج أمني أصبح هو القاعدة في العالم العربي.
كل ذلك يمرّ مرور الكرام.
بينما تحويل رتبة محمد فوزي، أو تاريخ وصول الملك حسين، أو توصيف موقع نور الدين طرّاف، إلى قضايا مصيرية يستحق صفحات من التعبير عن الرفض والغضب.
وهنا، على وجه الخصوص، تكمن قيمة كتاب راول التاريخية.
ليس لأنه &"يخطئ&" أو &"يصيب&" في تفصيل من هنا أو هناك، بل لأنه ينقل النقاش من عبادة النصّ والزعيم إلى محاسبة المشروع؛ من الأرقام إلى المضمون ومن الهوى إلى الأثر.
والأكثر ركاكة في هذا التحليل النقدي هو أنّ هذا النوع من الدفاع عن الناصرية، القائم على تبرير العنف باسم &"القضية&"، هو نفسه الذي تبنّته لاحقاً أنظمة وحركات لا ترى في البراميل المتفجّرة، ولا في القتل الجَماعي، ولا في الإبادة السياسية، سوى &"مقاومة&" و&"صمود&" و&"سيادة&".
فالبراميل المتفجرة لم تظهر في دمشق صدفة.
ناقدٌ فكُره مُسَيَس يرى أن، القائد يتفوق على المجتمع، والجيش يعلو على السياسة، والعنف يتغلب على الأخلاق، والنتيجة تكون دائماً مؤامرة.
لذلك، حين يطالبنا ناقد من هذا الموقع بـ&"الموضوعية&"، فإن السؤال الذي يطرح نفسه لا يكون عن عدد الإعدامات، بل عن البوصلة الأخلاقية.
وحين يهاجم كتاباً لأنه يُزعج الذاكرة الناصرية، فذلك لأن الذاكرة نفسها في سُبات ولم تُوقَظ يوماً.
ختاماً، لم يحتاج راول إلى دروس في &"فن التأريخ&"، بل اكتفى، وبحكمة، بأن يطالب خصومه بأمر بسيط:
أن يتمعنوا في قراءة ما ينتقدون،
وأن يسمّوا الأشياء بأسمائها،
وأن يعترفوا، ولو مرّة، بأن المشروع الذي ما زالوا يدافعون عنه لم يُنتِج نهضة، بل ترك إرثاً من الخراب ما زلنا نرزح تحته حتى يومنا هذا.
وإذا كان هناك من شبحٍ يطاردهم حقاً، فليس شبح عبد الناصر، بل شبح الحقيقة حين تُنتَزَع من بين أروقة الأساطير.
ولو كان لقمان سليم بيننا اليوم، لابتسم ابتسامته الهادئة التي تعرف كيف تسخر من الطغاة بهدوء. كان سينظر إلى الحبيب إسكندر قاهر الطغاة، الذي تجرّأ على نبش الأسطورة، ويسحب نفخة بطيئة من سيجارته، ثم يقول ببساطته الجارحة:
"ارفع رأسك يا أخي. فقد مضى زمن الطغاة"
التاريخ، مهما طال حجبه، لا يرحم المستبدين، ولا يحفظ إلا من واجههم بالحقيقة. أما زمن الطغاة، فمهما تنكّر بأقنعة المقاومة والعروبة، لقد ولى.. وبقيت الكلمة الحرّة شاهدةً عليهم.