كتَّاب إيلاف

التطهير العظيم: واشنطن وإنقاذ الكوكب!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

نشرت السفارة الصينية في موسكو قائمة بالدول التي قصفتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. قائمة طويلة، تمتد من فيتنام إلى العراق وأفغانستان، وتتضمن أرقامًا صادمة لضحايا قُدِّروا بالملايين. قد يقرأ المرء، على سبيل المثال، أن حرب فيتنام وحدها أسفرت عن ملايين القتلى، وهو رقم يقترب من بعض التقديرات الأكاديمية التي تشير إلى نحو 3.8 مليون وفاة من المدنيين والعسكريين، خلال سنوات الحرب بأكملها.

يحاول التقرير الصيني وضع هذه الأرقام في سياق اتهامي مباشر، مستخدمًا لغة تحريضية وسؤالًا أخلاقيًا حادًا: هل الولايات المتحدة هي التهديد الحقيقي للعالم؟ لكن قبل القبول أو الرفض، يفرض سؤال أبسط نفسه:
هل قصفت الولايات المتحدة دولًا كثيرة فعلًا؟

الإجابة، وفق مصادر أكاديمية متعددة، هي: نعم.

بحسب مشروع التدخلات العسكرية (Military Intervention Project) في جامعة توفتس، خاضت الولايات المتحدة ما يقرب من 400 تدخل عسكري منذ تأسيسها، كان أكثر من ثلثها بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصًا في أميركا اللاتينية ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، ولا يزال هذا الرقم في ازدياد مستمر.

كما تشير مؤسسة IBON Foundation إلى أن الولايات المتحدة تدخلت عسكريًا في نحو 96 دولة منذ عام 1945، وهو ما أسفر عن ملايين الضحايا المباشرين وغير المباشرين نتيجة الحروب، والانقلابات، والعقوبات، وانهيار البنى التحتية.

ومع ذلك، تختلف تقديرات الضحايا بين الدراسات، لأن الأرقام في هذا المجال ليست حسابًا رياضيًا بسيطًا، بل نتاج مناهج بحثية متعددة:

• تشير التقديرات المستقلة لحرب العراق إلى مئات آلاف الوفيات “الزائدة عن المعدل الطبيعي”، وليس مجرد أرقام قتلى في المعارك.
• ويقدّر مشروع Costs of War بجامعة براون عدد الوفيات المباشرة وغير المباشرة في حروب ما بعد 11 سبتمبر بنحو 4.5 إلى 4.7 مليون إنسان في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وباكستان وغيرها.
• أما غزو بنما عام 1989، فلا تزال أرقام ضحاياه محل جدل حاد بين الروايات الرسمية، والكنسية، والحقوقية، ما يؤكد أن “الحقيقة الرقمية” في الحروب مسألة خلافية وليست يقينًا مطلقًا.

للوهلة الأولى، قد تبدو هذه التدخلات عملًا إجراميًا واسع النطاق، تقترفه دولة ترفع في خطابها رايات حقوق الإنسان والديمقراطية والقيم الإنسانية.

لكن، وكما هو الحال دائمًا في السياسة الدولية، قد تكون الحقيقة &- أو ما يُراد لها أن تبدو حقيقة &- أكثر “عمقًا” وتعقيدًا.

فلنجرّب، على سبيل الافتراض الساخر، أن ننظر إلى كل ما قامت به الولايات المتحدة من زاوية مختلفة، وبـ“نظرة حيادية” تمامًا. عندها قد نكتشف أننا أسأنا فهم الدور الأميركي طوال الوقت. فواشنطن، وفق هذا المنطق، لا تبدو قوة عظمى متهمة بالتدخل العسكري، بقدر ما تبدو راعيةً لمشروع تنموي عالمي جديد، يبدأ من خفض عدد البشر حتى لا تنفد موارد الكوكب!

بهذا المعنى، ليست الولايات المتحدة معتدية، بل “مفيدة”، و“ذكية”، وخبيرة في إدارة الموارد البشرية، وهدفها النهائي &- يا للمفارقة &- هو إنقاذ البشرية!

“بينما كان العالم منشغلًا بالاحتباس الحراري، ونفاد المياه، واستنزاف الطاقة… كان القادة في واشنطن يعملون بهدوء وحسم على تعديل منحنى النمو السكاني العالمي… أي أنهم كانوا يعملون من أجل إنقاذ البشرية المعذبة!”

في هذا السياق، يكتسب مفهوم ضحايا الحرب (Body Count) في فيتنام دلالة مختلفة تمامًا: لم يعد مجرد حصيلة حرب مأساوية، بل إنجازًا ديموغرافيًا مفترضًا، يمكن &- نظريًا &- أن يُسجَّل لصالح الإدارة الرشيدة للموارد العالمية، ولكل “راشد”، و“رشيد”، و“رشيدة”!

وهنا تحضر رواية جورج أورويل &"مزرعة الحيوان&" بقوة. فالعالم، كما يبدو، يقوم على قاعدة بسيطة:
كل الدول متساوية، لكن بعض الدول أكثر مساواة من غيرها في حق اتخاذ القرارات القاسية.

وبهذا المنطق، يمكن النظر إلى الولايات المتحدة بوصفها “الحصان المفضل” في المزرعة الدولية، المخوَّل وحده بتقرير من يعيش ومن يموت باسم “الصالح العام العالمي”.

أما السردية الرسمية الأميركية، فهي معروفة: التدخلات العسكرية كانت من أجل “تحرير الشعوب”، و“نشر الديمقراطية”، و“حماية المدنيين”. وهي سردية لا تختلف كثيرًا عما وصفه باحثون ونقاد أكاديميون عند تحليل استخدام مفاهيم مثل “الحرب على الإرهاب” و“الأمن العالمي” لتبرير عمليات عسكرية معقدة، ذات تبعات إنسانية مدمّرة في العراق واليمن وسوريا وأفغانستان.

لفهم هذه الآلية، علينا فك شفرة قاموس واشنطن الجديد، الذي يمثل تحفة في فن الدعاية السياسية. فالكلمات لا تصف الواقع، بل تصنع واقعًا بديلًا مقبولًا:

• “أضرار جانبية” (Collateral Damage): مصطلح إداري محايد يمحو صورة الجثث المدنية الممزقة تحت الأنقاض.
• “ضربة جراحية” (Surgical Strike): تشبيه طبي ينقل الفعل من مجال الدمار العسكري إلى مجال الدقة والعلاج والطهارة.
• “نشر الديمقراطية” (Spreading Democracy): شعار أخلاقي سامٍ يجعل الغزو امتدادًا للحضارة بدلًا من كونه انتهاكًا للسيادة.

تكمن السخرية العظمى في أن هذا القاموس نفسه هو أداة “التطهير العظيم”: تطهير اللغة من إنسانيتها، وتطهير الضمير العالمي من مسؤوليته، تمامًا كما تتخلص الحسابات الديموغرافية الوهمية من “الفائض البشري”. إنه التناقض ذاته: استخدام أطهر الكلمات لتبرير أقذر الأفعال.

لنتخيل الآن الإعلان التالي:
“لقد قمنا بقصف بلدان عدة، ليس لنشر الموت، بل لتقليل استهلاك الموارد، وحماية الكوكب من الإفراط السكاني!”

عنوان جذاب، أنيق، ومقنع… لولا أن نتائجه الواقعية لم تكن وفرة في الموارد، ولا عالمًا أكثر عدلًا، بل تكريسًا للهيمنة، وإنتاجًا مستمرًا للفوضى، والنزوح، والدول الهشّة.

قد تبدو نبرة السخرية هنا عالية، وربما جارحة، لكنها ليست موجهة إلى الضحايا، بل إلى الخطابات التي تبرّر المآسي بأخلاق زائفة. وإذا افترضنا &- جدلًا &- وجود “خطة خفية” لتقليل الضغط السكاني عبر الحروب، فإنها فشلت فشلًا ذريعًا في خدمة البشرية.

تتجاوز السخرية في هذا المقام إدانة سياسة بعينها، لتصبح مرآة كاشفة للتناقض الوجودي الذي يقوم عليه نظام عالمي مختل. فالسؤال الحقيقي لم يعد: “هل لدى واشنطن خطة خفية لإنقاذ الكوكب عبر التطهير الديموغرافي؟” &- فهذا ضرب من التهكم الأسود.

السؤال الأكثر إيلامًا هو: ما نوع النظام العالمي الذي يسمح، بل ويشرعن، تحويل مثل هذا التهكم الأسود إلى تفسير مقنع منطقيًا لفعل الهيمنة؟ نظام تُختزل فيه الشعوب إلى أرقام في ميزان القوى، وتُغتال فيه السيادات تحت شعارات إنسانية، وتُسرق فيه الثروات تحت ذريعة “تحريرها”. النظام الذي تنتج سرديته المهيمنة قاموسًا يغسل الدم من الكلمات، ويغسل الكلمات من ضميرها.

حينها، لا يبدو أن “التطهير العظيم” مجرد عنوان ساخر لمقال، بل قد يكون التشخيص الأكثر دقة لمرض العصر: تطهير السياسة الدولية من الأخلاق، وتطهير القوة من المساءلة، وتطهير التاريخ من وجهة نظر المهزومين. وتبقى المزرعة قائمة، والخنازير على المنصة، وجميع الحيوانات متساوية، ولكن بعضها &- كما علمنا أورويل &- أكثر مساواة من غيرها في حق تعريف معنى “التساوي”، و“الإنقاذ”، و“التطهير” نفسه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف