عن تصاعد الخطاب القومي في إيران
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عمار عكاش
جاءت انطلاقة تظاهرات إيران الأخيرة مفاجئةً للمراقبين، وأجمع هؤلاء على أن محرّكها هو العامل الاقتصادي، لكنها سرعان ما نَحتْ منحًى سياسياً. وظهر من خلال هتافات المتظاهرين أنّ الإيرانيّين ضاقوا ذرعاً بفواتير التمدّد العسكري لنظامهم: «سنموت كي نستعيد إيران، لا نريد غزّة، ولا لبنان، نريد أن نحيا لإيران فقط»، «اتركوا سورية واعملوا من أجلي». كما عبّرت هذه الهتافات بوضوح عن تصاعدٍ في الحسّ القوميِّ في مواجهة الخطاب الإسلامي السلطوي، حتى أن هناك متظاهرين هتفوا للشاه بهلوي الذي ترمز حقبته إلى القوميّة الفارسيّة والقيم الحديثة الغربيّة.
لطالما شعر الإيرانيّون بانتمائهم إلى حضارةٍ عريقة تعود جذورها إلى ما قبل الحضارة الإسلاميّة، وغذى هذا الشعور حجم التدخّل الهائل في شؤونهم منذ منتصف القرن التاسع عشر من قبل القوى الاستعماريّة، بخاصة الروس والإنكليز، ليرثهم لاحقاً الأميركيّون، وتم تبنّي الخطاب القومي أيديولوجيةً سلطويّةً في الفترة البهلويّة، ومثّل اختيار الشاه تسمية إيران بديلاً من تسمية بلاد فارس رمزيّةً مهمّة، فهو يحيل إلى مجالٍ ثقافيّ هندو - أوروبي يتطابق مع الحيز الجغرافي لانتشار الإمبراطورية الفارسيّة العريقة الذي شمل القوقاز وبلاد الرافدين وآسيا الوسطى وأجزاء من أفغانستان وباكستان، ولكن في الوقت ذاته غذّى شعوراً بالعداء للعرب، فصورة العرب في الذاكرة الإيرانيّة صورة برابرةٍ غزاة نكّلوا بالمثقفين الزرادشتيّين، وقطعوا خطّ تقدم الحضارة الفارسيّة. وتتطابق هذه الثنائيّة أيضاً مع سرديّة الاضطهاد السنّي الشيعةَ، على رغم أن إيران لم تصبح شيعيّة إلا في القرن الخامس عشر في عهد الصفويّين.
وحين أسقطت الثورة الإسلاميّة الشاه، لم يكن ممكناً نظام الخميني أن يقطع كليةً مع الخطاب القومي، فمنذ لحظة الثورة الأولى مثّلَتْ الروح القوميّة الفارسيّة أحد مصادر شرعيّة الخميني الثوريّة، فجُوبِه التغريب الذي فرضه الشاه بخطابٍ أساسه دينيّ شيعيّ ويمتزج بالحس القومي الفارسي، حتى إن الشيوعيّين تقاطعوا مع الخميني في معاداة الإمبرياليّة، وسوّقوا له من خلال التنظير الماركسي اللينيني عن التحرر الوطني قبل أن يُفاجأوا بفرضه مشروعاً سلطويّاً استئصاليّاً يستلهم أيديولوجيا طوباويّة من القرون الوسطى.
كما شهدت بدايات الثورة الإسلاميّة محاولاتٍ لتغييب بعض مفردات الهويّة القوميّة الفارسيّة، مقابل التشديد على كل ما يرتبط بالتاريخ الإسلامي لإيران، فعمل الخمينيّون على تغييب المنتجات الثقافية ما قبل الإسلامية، كالشعر الملحمي الإيراني ورأس السنة الفارسيّة نوروز، وحاول بعض المتطرّفين تدمير موقع برسبوليس، العاصمة التاريخيّة للإمبراطوريّة الأخمينيّة، غير أنّ نشوب الحرب العراقية - الإيرانيّة أرغم الملالي على استخدام الأيديولوجيا القوميّة إلى جانب الدينيّة، فلم يكن ممكناً تعبئة المجتمع الإيراني من دون هذا الرابط القومي. هكذا، استعيد الخطاب القومي الذي يقول أن العرب البرابرة يريدون غزونا مجدّداً.
غير أن نقطة التحوّل الأكبر جاءت في ظل حكم محمود أحمدي نجاد، فبدأ استدماج مفردات الخطاب القومي الفارسي في الخطاب الديني الأيديولوجي، وتوازى ذلك مع حركيّة اجتماعية تصاعد خلالها الشعور القومي في إيران وفق ما يبدو من تزايد إطلاق الإيرانيّين أسماء تدل على التراث الفارسي قبل الإسلامي على أبنائهم (داريوش – روكسانا...). ففي هذه الفترة، بات أي شخص يسير في الشوارع الإيرانيّة يلاحظ كثرة أعداد الأعلام الموزّعة على الطرقات والجسور، وانطلقت عمليّات تجديد المواقع الأثريّة، وأقيمت احتفاليّات كثيرة ذات مدلول ثقافي ما قبل الإسلامي، حتى إن شعار الزرادشتيّة (شعار فارفاهار) أصبح يستعاد كرمزٍ قوميّ ثقافيّ، وأعيدتْ ترجمة أسطوانة كورش الشهيرة إلى الفارسية، ووُزِّعت نسخٌ منها على أعضاء الحرس الثوري الإيراني، حتى إن أحمدي نجاد نفسه صرّح في إحدى الاحتفاليّات بأنّ «القائد كورش مثالٌ يجب أن يحتذيه جميع القادة». هذا الأمر لم يكن ممكناً حتى تخيّله في العقد الأول من عمر الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.
هذه التحوّلات إن دلّت على شيء، فإنما تدلّ على إدراك قطاعاتٍ أكبر من النظام والحرس القديم لضرورة استخدام الخطاب القومي كقوّة توحيديّة بين الإيرانيّين، فشرعتْ ماكينة النظام الإعلاميّة في الدفاع عن حق إيران في امتلاك السلاح النووي باسم «خليج فارسي مسلّح ويستطيع حماية نفسه»، كما شرعت في ترويج أن الثورة الإسلاميّة تحمي إيران العريقة والإمبراطوريّة، وبدأ النظام يبرّر جزئياً طموحاته التوسعيّة بمبرراتٍ تعتمد إلى جانب قيم الثورة الإسلاميّة، مفرداتٍ تداعب الروح القومية الإيرانيّة، فقُدِّم الجنرال قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني بطلاً قومياً على نمط القادة الفرس العسكريّين القدماء، يقاتل التطرّف الإسلامي «الداعشي» الذي يهدّد الوطن الإيراني.
وترسّخ هذا التوجّه القومي في خطاب النظام أثناء الانتخابات الرئاسيّة، حيث ذكر حسن روحاني في خطابه كلمة إيران ثم الإسلام، ويبدو هذا الأمر مفهوماً على ما يحمل من تناقضٍ مع أسس الأيديولوجيا الدينية الخمينيّة، فالأنظمة المستبدة بمعظمها تظهر قدرةً ومرونةً في تغيير خطابها حسب حاجات ترويض المجتمع وقمعه.
لكن، مع ذلك يبقى خطاب الشارع الإيراني المنتفض ذو الطابع القومي متمايزاً عن خطاب النظام، من حيث إنه يرمي إلى استعادة مفهوم الأمّة الإيرانيّة وفقاً للمفهوم الغربي عن الدولة - الأمة، وعلى رغم أنه يريد لإيران مكانةً مرموقةً في المنطقة والعالم، فإنه لا يرغب في المضي بالتوسّع والتدخّل في شؤون الدول المجاورة، كما أنّه يحمل جانباً حقوقياً مدنيّاً يطالب بالديموقراطيّة واحترام حقوق الإنسان.
إنّ تنامي هذه الروح القومية المناهضة للاستـــــبداد، يمكن أن يشكّل قوّة ضاربة للمعارضة الإيــــرانيّة، بخاصة أن فكرة الروح القوميّة أو الفــــارسيّة ليست عرقيّة بقدر ما هي ثقافيّة يمكن أن تجــــمع المكونات الإثنية والقوميّة المختلفة. لكن يبقى الأمر مرهوناً مستقبلاً بمدى قدرة المعارضة الإيرانية على تقديم برنامج متقدّم يجذب الأقليات القوميّة التي يبدو الأكراد أكثرها تبلوراً سياسياً، إضافة إلى الأَذَريين الذين يشيع بينهم أخيراً خطاب قومي منغلق. وقد بيّنت الانتفاضة الأخيرة أن المعارضة التقليديّة لم تكن مؤثرة في قيادة الشارع، ناهيك بأنّ النظام أظهر في أكثر من مناسبة تصلّباً وقدرة على استخدام العنف المفرط والإعدامات والاعتقالات.
ويعلّمنا التاريخ القريب للمنطقة والعالم أن الأنظمة المستبدة، ونتيجة حكمها لعقودٍ، تمسك بالكثير من مفاتيح المجتمع ويمكن أن لا تتورّع عن تدمير البلاد مقابل بقائها في الحكم، وتبقى كل الاحتمالات مفتوحة بانتظار ما يخبّئه المستقبل لإيران.
* كاتب سوري