كتَّاب إيلاف

براكين سليم دوله الرحيمة *

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

بحسب المفتونين بربط حياة الكائن بالمصير، قد يكون مُقدّرا لي أن أتعرف على سليم دوله في فترة الشباب حين عُيّنت مدرسا للغة الفرنسية في المعهد الثانوي بقفصة . وقد كنت زرت هذه المدينة أكثر من مرة قبل ذلك، بسبب قصة حب عاصفة، وبسبب أصدقاء تقاسمت معهم سنوات الدراسة ، وأفكارا كانت قد أشاعت الهيجان في أبناء جيلي حتى أنهم باتوا يظنون أنهم قادرون على تغيير العالم، في حين انهم كانوا غارقين في الأوهام ليجدوا أنفسهم في النهاية على هامش واقع سياسي واجتماعي وثقافي لم يكونوا على دراية بأبسط عناصره ومكوناته.

حدث ذلك في منتصف السبعينات من القرن الماضي...وفي شقة ب"حي النور"،قرب الطريق الرابطة بين قفصة والقصرين، استقرّ بي المقام برفقة الصديق بوبكر بنور أستاذ الفلسفة الذي كنت قد تعرفت عليه في مقهى "لونيفار"بالعاصمة حيث كان يتمّجعُ الغاضبون والمتمردون والباحثون عن لغة أخرى غير لغة الحزب الواحد،والزعيم الأوحد. وكان خالد النجار الحالم بشرق آخر غير شرق الإستبداد والحريم وفقهاء الظلام هو الذي قدمني إليه قائلا لي بإنه-أي بوبكر بنور-يمكن أن يساعدني على فكّ ألغاز الفلسفة الألمانية. وربما لهذا السبب شعرت بالسعادة حين وجدت نفسي في نفس الشقة معه. وقد خفف عني ذلك وطأة خيبتي في حب الصبية القفصية التي لم أعثر لها على أي أثر . 

في تلك الشقة الصغيرة المطلة شرفتها على جنان جميل، كانت السهرات والجلسات تطول حتى مطلع الفجر أحيانا. وكان يرافقنا فيها مصطفى القضاعي، ولزهر المسعاوي من فرقة قفصة اللذان كانا مُنهمكين آنذاك في إعداد مسرحية"حمة الجريدي" التي ستضحك أعدادا وفيرة من التونسيين في جميع مناطق البلاد. ومن حين إلى آخر، كان يفاجئنا خالد النجار بزياراته المعطرة بالشعر، وبالكتب البديعة ،وبطرائف تزيل عنا وحشة غبار الصحراء، وجفاء الجبال العارية المحيطة بالمدينة. كما كان يزورنا الراحل أبو القاسم التليلي، المشهور ب"فيلسوف التعاسة" ليمتعنا بداعباته السوداء عن العرب المهزومين دائما ،وعن حكامهم الذين يتفننون في تعذيبهم وتنكيد عيشهم فلا متعة لهم غير ذلك. وخلال ترددي اليومي على المعهد، لفت إنتباهي فتى دون العشرين تلمع ملامحه بالفطنة والذكاء، وبتوق واضح للتمرد على غبار الحياة وفسادها. ويوما ما قدمه لي بوبكر بنور قائلا لي بإنه أنجب تلميذ عنده،وإنه مفتون بالفلسفة. لذا هو يرغب في دراستها إذا ما أحرز على شهادة الباكلوريا. وكان ذلك الفتى هو سليم دوله.

في نهاية السنة الدراسية 75-76 تمّ فصْلي مع بوبكر بنور من التعليم ل"أسباب بيداغوجية" بحسب تقرير إدارة التربية. وكان عليّ أن أعيش بعد ذلك سنوات من العذاب والتشرد بين العاصمة وبنزرت والقيروان . وقد رسمت صورة لتلك السنوات المرة في روايتي"الآخرون". و في نهاية السبعينات، بدأت أستعيد حيويتي ،وحبي للحياة خصوصا بعد أن قمت برحلة طويلة أتاحت لي زيارة باريس،ومدريد،والدار البيضاء، ومراكش،والرباط،وخلالها تعرفت على العديد من المثقفين والمبدعين أمثال ايتال عدنان،و عبد الوهاب البياتي، وعبد اللطيف اللعبي، وشربل داغر، وفريد بالكاهية، ومحمود أمين العالم، وعبد الكريم غلاب، ومحمد برادة وآخرين...

وفي تلك الفترة التي شهدت فيها تونس شبة انتعاشة ديمقراطية بعد الهجوم المسلح على قفصة في أول عام 1980، أطل عليّ الفتى سليم دوله من جديد. وفي جلساتي معه في مقهى "الزنوج" بشارع باريس بالعاصمة ،والذي كان قد تحول آنذاك إلى فضاء بديع يستقطب كل الباحثين عن ذهب الكلمات والأفكار، بدا لي أنه قطع بسرعة عجيبة أشواطا هائلة في المعرفة والتمرد ليفقد نهائيا ارتباكه البدوي، وحياءه الطفولي ويصبح مهاب الجانب حتى من قبل من يكبرونه سنّا وتجربة . وقد يكون "فيلسوف التعاسة" على حق عندما وصفه ب" البراكين المتحركة" دليلا على حيوته واندفاعه وحبه للمغامرة حتى ولو كانت كأداء.أما أبو زيان السعدي الذي كان يتعامل معنا مثل مؤدب متسلط لا يعرف غير العصا لتأديب الصبيان، فكان يلوذ بالصمت عندما يشرع سليم في الكلام .لذا قلب الإسم مُكنيا الفتى الغاضب والمتمرد ب"دولة سليم".و كان لأبي زيان الفضل في نشر النصوص الأولى لسليم،والتعريف به في الأوساط الأدبية مثلما كان حاله معي أنا القادم من نفق الإيديولوجيات الرمادية الكئيبة.

وما أنا لاحظته منذ البداية، كما لاحظه آخرون، هو أن سليم لم يكنْ يتحصّنُ داخل اختصاصه ليتقوقع فيه فلا يطلّ على الآخرين،أو على المجالات المعرفيّة الأخرى إلاّ من خلال كوّته الضيقة. كما أنه كان يتجنب التعقيد المتعمد والمتكلف والركونَ إلى المفاهيم الغامضة والملتبسة، بل كان يسعى دائما إلى أن يكون خطابه واضحا، بيّنا ، لامعا ودقيقا. ولعل ذلك يعود إلى أنه لم يكن يقتصر على قراءة الفلاسفة وحدهم، بل كان يحب أن يقرأ الشعر القديم والحديث، وكتب التراث، والروايات وكتب الرحلات والأسفار. فالمعرفة عند سليم دوله عبارة عن بستان فسيح فيه يحلو له أن يتذوّقَ من ثماره الشهية والمختلفة ما يمكن أن يغذي العقل والخيال معا من دون أن يبسط لا هذا ولا ذاك سيطرته على الآخر لينجو من كآبة المحبوسين في اختصاصاتهم الضيقة ،ومن آلام عسر الهضم الذي يعانون منه ليموتوا به في النهاية. وما كان يروق لي شخصيا هو أن سليم لم يكن يكفّ عن إرشادي وإرشاد الأخيار من أصدقائه إلى كتب يجهلونها لأنّ تقاسم متعة القراءات والمعارف عنده كان مذهبا فلسفيا قد يكون ورثه عن فلاسفة الإغريق الذين كانوا يتجمّعون حول مائدة حافلة بمختلف أنواع الأكل والشراب ليخوضوا في جدل ساخن حول القضايا التي تشغلهم ،وتؤرقهم وتعذبهم أسئلتها وملابساتها في الليل كما في النهار.

وحتى عندما هاجرت لأستقر في ميونيخ جنوب ألمانيا فلا أعود من غربتي إلاّ بعد مرور أزيد من عشرين عاما، لم تنقطع صلتي بسليم. ففي كل زيارة أؤديها إلى تونس، كنت أحب أن ألتقي به لنواصل جدلا قديما أو لأتعرف من خلاله على المشهد الفكري والثقافي في البلاد، أو ليرشدني إلى كتاب جديد أجهله،أو غفلت عنه . وكم من مرة ، وجدت في الفندق الذي كنت أنزل فيه ساعة رحيلي عائدا الى ميونيخ، رسالة مختصرة يؤكد لي فيها على ثبات صداقتنا أمام تقلبات الحياة والزمن. ففي ربيع عام 2001، جئت في زيارة قصيرة إلى تونس. ويوم مغادرتي عائدا إلى ميونيخ، وجدت هذه الرسالة الجميلة والمرة من صديقي سليم ،وفيها كتب يقول:
من سليم دولة إلى حسونة المصباحي...تحية بما يليق بالألم والفرح الكتابي...أنت الكائن الهش الرائع بشكل إستثنائي بقتامة الحبري ،وليكن أننا لم نفتح كتبنا السرية العاطفية لغرضها على قارة الكتابة فإننا وإن كان الوطن قد ظلمنا فإ ننا نكون حقا يا أخي الحبري قد ظلمنا أنفسنا. ماذا فعلوا هم عينهم اياهم بالطاهر الحداد؟والشابي؟ وبك أنت تحديدا ...لقد اطلعت على جريدةّ "اخبار الأدبّ حين أعلنت ذات يوم "ماذا قدمت لي تونس" في سؤال معكوس ماذا قدمنا نحن لذواتنا؟
إن كان موت لا أموت بغصتي... أبادلك الحبر والتراب وما يليق بالتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا.

لهذا كله،ولأحوال أخرى كثيرة، خيّرتُ أن يكون سليم من ضمن الأصدقاء الذين زيّنوا كتابني: رسائل إلى أصدقاء بعيدين . 

وكم أنا سعيد اليوم أن تقوم قفصة بتكريم إبنها المتمرد سليم، وبأن أكون أنا الذي تقاسمت معه الحلو والمر، من ضمن المحتفين به. ففي هذه الفترة العسيرة والمؤلمة التي تعيشها تونس اليوم،والتي أغرقتها في النزاعات،وفي الضغائن والأحقاد والظلمات، تظل الصداقة مبدأ إنسانيا ساميا وعزيزا تتوجب رعايته والمحافظة عليه لنعيد الإشراقة للقلوب والعقول، ولنصدّ المخاطر الجسيمة التي تهددنا وتهدد بلادنا بالتمزق والضياع في وادي الظلمات …

العزيز سليم...دمت لنا جميعا صديقا أبيا ،ودمت لتونس مبدعا جميلا، ومفكرا حرا رافع الرأس، متوقد العقل والخيال!

 

الكلمة التي ألقاها الكاتب في حفل تكريم الكاتب التونسي سليم دولة في مدينة قفصة يوم 8 مارس 2018

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف