شخوص ومطبات في اذاعة موسكو (2) مسرور كتانة "اليهودي التائه"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
&وعيٌ على ذكرياتي (6)
&.. &مسرور وشاهين (اليهوديان العراقيان الشيوعيان الهاربان) كانا أكثر العراقيين الموجودين آنذاك احتضانا ورعاية لي في ايامي الاولى في موسكو، الشيء الذي لن انساه ما حييت.. &انا ابن الجواهري.. &اذاً (أنا العراق)، أنا النسمة الطرية التي تخفف عنهما ألم الحنين ومرارة الغربة..&غرفة شاهين في جامعة موسكو والذي يعد اطروحة الدكتوراة في القانون الجنائي وزوجته نتاشا (الفلاحة الروسية البسيطة الطيبة) كما يصفها لي، كانت بيتي الثاني خلال سكني في القسم الداخلي غير البعيد عنهما.. &تجيد نتاشا اعداد الدولمة والمحشي وكباب العروق كامهر النساء العراقيات.. &علمها شاهين كل فنون الطبخ العراقي..&حين ينصرف شاهين الى اوراقه ومراجعه.. &تجلس نتاشا الى جواري حول منضدة صغيرة قرب النافذة.. لتراجع معي حصص اليوم في اللغة الروسية.. &بالابتسامة او الضحكة الفرحة للكنتي الروسية المضحكة تقضي معي ساعة او ساعتين.. احيانا حين لا تريد ان تشغل زوجها عن العمل على الاطروحة، تستعير مفتاح غرفة فارغة لاحدى صديقاتها في بناية الجامعة لنستمر هناك في المراجعة.&مسرور يدعوني مرارا الى شقته الصغيرة حيث يعيش مع غالا.. &لا أطفال لديهما رغم السنين العشرة من الزواج.. يتجولان معي لشراء احتياجات شتاء موسكو القاسي من مخازن موسكو ويطمئنان على كل قطعة ارتديها..&.. &نصيحة مسرور لاثنائي عن قراري بأن اصبح مذيعا (دائميا) في اذاعة موسكو، بدلت مسار حياتي.&&اوضاع العالم العربي تأخذ مركز الصدارة في الاحداث وخصوصا مصر وتطلعات الرئيس عبد الناصر في الوحدة ومناهضته للقوى الاستعمارية والصهيونية في الشرق والتفاف الجماهير حوله وما اعقب الوحدة من احداث في مصر وسوريا واليمن.. &يتصاعد الشعور القومي لدى الغالبية العظمى في بلداننا العربية.. مع هذه التبدلات تجري تبدلات في توجهات اذاعة موسكو ايضا، في المواضيع التي تبث وفي هيكل القسم العربي كله واهمه القسم الاذاعي.. مع هذا التوسع والتطور يسقط ضحايا..&.. &بعد التخلي عن صديقي (كاكه) عز الدين مصطفى رسول، للكنته الاذاعية الكردية&كأول ضحية للمد القومي.. يحوّل مسرور كتانة - وهو من قدامى مذيعي القسم العربي، كضحية اخرى - الى قسم الترجمة.. لا يجوز ان يبقى اسم يهودي في البث الاذاعي العربي.&.. &يزداد وجه مسرور الحزين حزنا.. &تصبح علبة السجائر في اليوم علبتين.. يزداد صمتا.. &يقبله الجميع بمودة كبيرة وباحتضان دافيء في اليوم المقرر لبدء عمله في قسم الترجمة غير البعيد.&مع برنامجي الجديد (يوميات طالب عربي في الاتحاد السوفياتي) الذي اعده واذيعه تكثر زياراتي لقسم الترجمة ولمسرور بالذات.. &يدقق معي ترجمة النص الى الروسية.. &يُقارن النصان العربي والروسي بعد ذلك من قبل مسؤول روسي يجيد العربية قبل السماح ببثه.. &يحدثني مسرور عن ألمه وحزنه عن فقدان مركزه كمذيع.. عن اولئك قصيري النظر في الادارة العليا وعن حساسيتهم المفرطة تجاه اليهود في الاذاعة كلها وعن عدائهم للسامية.. &لاتنفع معه محاولاتي لتهدئته والتخفيف عن المه الذي يغور في اعماقه، ولا ان البعض مما يقوله محض تصورات وهمية نتيجة التغيير الذي حصل على مهامه.&ازوره بين حين وآخر في شقته الصغيرة.. هو لايتمتع بامتيازات عقود الاجانب للعمل في الاذاعة.. &مربع صغير هو صالة البيت، مائدة صغيرة باربعة كراسي ولا مكان لخامس حتى لو تواجد.. تلفزيون صغير بشاشة بحجم كف اليد، امامها عدسة مكبرة ضخمة تمكّن الجالس حول الطاولة على بعد مترين من مشاهدة البرامج بزاوية جلوس معينة.. غرفة ضاقت بسرير لشخصين.. مع هذا الضيق في المساحة، إلا أن مثل هذا السكن شيء مميز يحصل عليه من يعمل في الاعلام والفنون.&.. رغم هذه (الحصرة) يسعى مسرور لاستضافة من حوله في العمل وعلى الاخص العراقيين منهم شرط ان لايزيد عدد الضيوف القادمين على اثنين وكحد اقصى ثلاثة.. &آنذاك لا مكان لـغالا زوجته غير المطبخ وغرفة النوم.&.. بعد حين اصبحت ازوره أنا ولودميلا (لوسي)..&&- " أنت تحب الشعر.. &وانا أحبه "، كانت لوسي تلتصق بجنبي على احد مصاطب حديقة غوركي المشرفة على النهر.. " انت تحب المسرح والموسيقى وانا كذلك.. انت تحب الرسم وتمارسه وتهوى معارضه وانا اعشق الرسم والمعارض.. انت تحب الجميلات وانا وكما يصفني الآخرون جميلة.. انت لا تستطيع العيش دون إمرأة وانا وكما ترى امرأة.. &لديك اثنا عشر مترا للسكن، اي ما يمكن تسجيله لاثنين.. &سارعاك كزوجة متفانية ".. &واصلت لوسي حديثها بين فكاهة الحزن المفتعل وبين الجد.. &مدت اناملها وحولت وجهي تجاهها وبذلك الحزن الممازح المفتعل.. " تخيل قطتك الصغيرة مدماة شائهة بين انياب ذئب سيبيري او ممزقة تحت مخالب الدب الروسي البني الضخم.. هلو!.. هلو!.. انظر اليّ !.. &انظر الى هذا الوجه الذي تحبه.. أنظر وتخيل! الن يؤنبك ضميرك بعد موتي.. هه؟.. هه ؟! "- ولكني لست باق في موسكو.. انت تعلمين اني عائد الى العراق حال تخرجي.. أنا لا استطيع البقاء في موسكو.. وانت تموتين لو غادرتيها، اليست هذه مقولتك.&- " تعود انت وابقى انا ,وإن اردت ينتهي حينها عقد الزواج المكتوب بيننا.. من يعلم ربما تحنّ يوما فتعود اليّ من جديد.. "- وماذا سيقول عني الآخرون " تركها النذل وهرب "- " لا اعرفك تعير اهتماما لما يقوله الآخرون.. ثم انك لن تسمع ذلك وانت على بُعد الآف الكيلومترات.. &فكر فقط وتخيل !! هل يمكنك ان ترضى لـ"قطتك الصغيرة " أن يفترسها الذئب او يعلكها الدب في غابات سيبيريا.. او أن تتحول الى تمثال بلوري من الجليد لخمسين مئوية تحت الصفر في (كمجاتكا).. تمعن! انظر الى هذا الوجه الرقيق !.. لا تضحك!.. فقط.. &تخيل !، تخيل !!&.. &لم تبق الا اسابيع على تخرج لودميلا (الاوكرانية) من نفس المعهد الذي ادرس فيه كطبيبة للاطفال.. ستجلس امام لجان تعيين قادمة من اطراف مختلفة من شتى اطراف روسيا المتباعدة من القطب وحتى القفقاس.. هي وحظها في العروض المقدمة للخريجين من اطباء المعهد.. قد تعين في قرية وسط غابة سيبيرية قصية او مستشفى في مدينة لا تبعد إلا بضع مئات من الكيلومترات عن موسكو.. &لن تكون العاصمة باي حال من الاحوال مكانا للتعيين.. للسكن في موسكو عليك ان تحصل على عمل فيها.. للحصول على عمل يجب ان تكون لك مساحة سكنية (مسجلة) فيها، من ستة امتار مربعة او أكثر.. حلقة مفرغة لا عمل بدون مساحة سكنية مسجلة.. ولا مساحة سكنية مسجلة دون عمل.&قلت ضاحكا :- لالا.. &أن ياكلك الذئب ويمزقك الدب !.. لالا لن ارضى ذلك.. &انه منظر مرعب.. طيب أنا موافق ولكن.. قبل ان اكمل (.. ولكن بالشروط التي حددتيها)، قفزت من مكانها بفرح ودارت شبه راقصة.. أحتضنتني بشدة وغمرت وجهي بالقبل (شيء غير مستساغ في المحلات العامة بموسكو).. &هورا.. هورررا.. هورررا، اطلقت صرخة الانتصار الروسي الشهيرة بصوت عال جلب انظار كل من حولنا في المتنزه..&- لا تقبليني!.. شدي اولا على يدي بقوة.. اتفاق وعهد شرف !.. قولي(جيسنيا سلوفا).. شدت على يدي بفرحة كبيرة وكررت ورائي (جيسنيا سلوفا)..&بعد بضعة ايام وقفنا امام قاضي مكتب الزواج وحين سألها عن اي لقب تختارين بعد الزواج أجابت " الجواهري".. لم تكن هنالك زفة وبدلة بيضاء واكليل.. شاهدان فقط هما أحمد النعمان ومحسن سعدون.&.. يمكن تسمية هذ ه الزيجة بين الاخريات المتعددة بانها (زيجة الشفقة).&&مسرور يزداد حزنه.. يصبح وجهه النحيل الطويل اكثر ذبولا.. صمته وسرحاته يطولان حتى وانا اجلس معه في قسم الترجمة.&- في اي بلد عربي تتصور انه يمكن قبولي ؟.. هل تتصور انه يمكنني العودة الى العراق ؟.. &نحن الآن في عهد الجمهورية وللحزب الشيوعي مكانة كبيرة.. لا يزال هنالك عوائل يهودية معدودة باقية هناك.. كيف بقت لا اعرف لكنها موجودة.. &سرح ببصره بعيدا خارج غرفة الترجمة الكبيرة.. خارج ضجيج آلات الطابعة والاحاديث المتشابكة.. &واصل احلامه :&- كم هو مؤسف ان الجواهري قد غادر العراق غاضبا وان علاقته بالزعيم انتهت.. لقد كان بالامكان ان تتدخل يا فلاح لتوصل التماسا اقدمه الى الزعيم عبد الكريم عن طريق والدك المقرب اليه.. &آه لو انني لم أكن احمق وسارعت في الاشهر الاولى للجمهورية واستعنت بك لايصال الالتماس.. &&وصل مسرور الى اليونان بعد خروجه من السجن وبعد مؤامرة اسقاط الجنسية عن اليهود لدفعهم - وبتخطيط دولي- الى اسرائيل.. وصل أثينا وكان امامه خياران.. توصية الحزب الشيوعي لدخوله الاراضي السوفياتية.. &والباب المفتوح الى اسرائيل.. الخيار الاخير معناه خيانة لقناعاته الماركسية الوطنية بأن الكيان الصهيوني عصاة موسى الاستعمارية للإستحواذ على الشرق الاوسط.. &أضف الى انه طعنة للوطن الذي احبه وضحى في سبيله.. لم يطعنه الوطن في ظهره ولا ناسه الطيبون، انما طعنه من تآمر على العراق ومن خانه.. &.. &لم يطل مسرور التفكير في الخيارين.. توجه في اليوم التالي الى السفارة السوفياتية ومعه رسالة توصية الحزب الشيوعي العراقي.. ايام ويدخل مسرور الى العالم الاشتراكي المسحور.. مطمح الشعوب.&قبل بكل الاوضاع الصعبة في البداية واقنع نفسه بكل مبررات وجودها.. وجدوا له عملا كمذيع في اذاعة موسكو.. تزوج من غالا وهي روسية تعمل في وكالة الانباء (نوفستسي).. كل شيء بدا مقبولا حتى حلت نكبة الازاحة عن البث الاذاعي.&&احداث كثيرة تتوالى وشخوص يمرون عابرين على حياتي في تلك الاونة.. بعضهم يترك أثرا.&.. يُـنحى عبد الوهاب البياتي عن منصبه كملحق ثقافي، لعدم قدرته على التوفيق بين مهامه الوظيفية، وخصوصا مع آلاف الطلبة الذين قدموا، وبين مهامه كشاعر.. &يريد الشاعر ان يكون له حضورا متميزا في المحافل الادبية. &.. يتنحى عنه اهتمام السوفيت كثيرا.. يخسر شقة الملحق الفارهة.. &يسكن في غرفة في فندق موسكو.. ينفّض عنه الكثيرون.. &التقي به مرارا وغالبا في الطابق العشرين من الفندق على مائدة الغداء في المطعم الكبير او على فنجان قهوة في البهو.&&.. يصل محمود صبري فتهيء له شقة بمرسم وسيع بمنطقة شبه مقفرة غير بعيد عن سكني.. بالطبع يضع الروس له مرافقة جميلة لا يتجاوز عمرها السادسة عشر.. تعرف بضعة كلمات انكليزية.. ازوره مرارا أجده احيانا في ازمة مع الوحي الفني.. " الضوء شحيح عبر النوافذ الصغيرة ".. " الثلج في الخارج يجمد العواطف في الداخل ".. &"ارتفاع المرسم غير كاف لحجم اللوحات الكبيرة ".. &.. &اضف الى كل ما اشتكى منه، هنالك دلع الصبية (الفرفورة) الجميلة.. اراقبها بنشوة وهي تتغنج بزعلها عليه، رغم معطف الفرو الثمين الذي ترتديه، المقدم كعربون للصلح.. اكون في مرات عديدة وسيط صلح بينهما، هذا اضافة الى الترجمة التي اقوم بها لما يريد احدهما ان يقول للاخر.&.. سرعان ما يختنق محمود صبري.. &يطلب تدخل الحزب ليهيء له مكانا في براغ.&&.. مسرور يدعونا انا والبياتي الى عشاء في شقته..&.. لاول مرة ارى مسرور مسروراً بحق وحقيقة.. &يهل وجه بالبشر والترحاب وهو يفتح لنا الباب.. حتى غالا زوجته المتأنقة، تعلو وجهها المحافظ ابتسامة مشرقة وهي تهيء انواعا عديدة من اطايب المأكولات الروسية.. نجلس اربعتنا حول المائدة الصغيرة بمربع الشقة الصغير ومع اقداح الفودكا نتناول العشاء كعادة الروس على المائدة والاحاديث تجري بسلاسة من موضوع الى آخر.. كل شيء كأحلى مايكون..&على فنجان قهوة بعد العشاء.. يدور الحديث، السياسة من صلبه.. الاتحاد السوفياتي والانشقاق الصيني وتأثيره على الاحزاب الشيوعية في بلدان العالم وعلى احزاب الشرق الاوسط بشكل خاص.. دور هذه الاحزاب والقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني داخل البلد المغتصب.. يبحث مسرور بين الادراج ويخرج بضعة اوراق.. يعرض على البياتي جريدة الحزب الشيوعي الاسرائيلي وبيانه لمناصرة الفلسطينين داخل الارض المحتلة.. رفيق في الحزب يعرضها على رفيق آخر..&يصمت البياتي للحظة.. يخرج علبة سجائره.. يولع احداها.. يأخذ نفسا عميقا وينفث الدخان بقوة وهو ينظر الى السقف..&-.. &ما أنت إلا صهيوني لعين.. بل وعميل وجاسوس قذر ! يصرخ بوجه مسرور.&يصاب مسرور بالهلع ويرتجف.. تسقط الاوراق من يديه.. يمتقع وجه فجأة ويتهدل جسمه.. يسقط عن كرسيه.. &نهرع انا وغالا اليه.. &اطلب اليها ان تأتي بقدح ماء بسرعة.. افتح ازرار قميصه واتناول دورق خل صغير من فوق المائدة.. ادلك وجهه وصدره بالخل وأرش وجهه من قدح الماء الذي احضرته غالا الباكية.. يفتح عينيه ويحاول النهوض.. &البياتي يجلس دون تململ وينفث بضعة انفاس من دخان سجارته بشدة في الهواء.. ينهض ويتوجه الى باب الشقة.. يفتحها.. يقف في انتظار المصعد.. &اتوجه اليه..&- لماذا يا ابا علي.. لماذا بالله عليك.. &أهذا جزاء هذا المسكين الذي طيرّه الفرح بقدومك ؟!- إنه يهودي لعين.. صهيوني قذر!.. فتح باب المصعد وغادر.. عدت الى الشقة الحزينة.&بعد ثلاثة اسابيع.. &نشر البياتي في احدى الصحف المصرية قصيدة (الثلج الاسود) لاعنا فيها كل شيء وكل ماعاشه في بلد الثلج الاسود.&.. &انتهت المرحلة العقائدية الاولى، مرحلة (الشيوعي)، من حياة البياتي و كانت قد بدأت بـ :ألا ياقطار الشمال البعيدْالى شرق برلين عجّـل بناكان ذلك القطار يعجل آنذاك، عام 1954، بنخبة من شيوعي العراق الى مهرجان الشبيبة العالمي شرق برلين. &&لم يعد مسرور الى وضعه السابق ابدا بعد ذلك، حتى الى وضعه الحزين الصموت بعد (نكبة) فقدان مركزه كمذيع.. &يشرد بذهنه اثناء العمل حتى يضطر رفاقه في العمل الى تنبيهه ليعود فيكمل ترجمة المادة التي تحت يديه.. لا يدخل في حديث او حوار مع الاخرين، بل يجيب بما يسأل عنه او ما تقتضيه ضروف المجاملة القصوى.. امتنع عن دعوة الآخرين الى بيته بل عن اية دعوة يوجهها او توجه له.. زاد وجهه الحزين الطويل الممتقع حزنا وطولا وامتقاعا.. استحال الى مدخنة للسجائر.. &ازوره فيقوم بما هو ضروري في مراجعة الترجمة دون حديث خاص..&&أزدادت المهام الدراسية بتقدم سنواتها واصبحت ساعات الاذاعة الليلية عائقا عن اتمام بعض التحضيرات الدراسية والواجبات المسائية.. &تركت العمل في الاذاعة واكتفيت بترجمة بعض النصوص التي اقوم بها لوكالة (نوفستي) للانباء كمدخول اضافي مساعد.. &لم أر مسرور إلا قبل يومين من مغادرتي الاتحاد السوفياتي بعد التخرج لاودعه.. بكى بصمت وهو يحتضنني ودمدم بأصوات غير مميزة لكنها كانت كافية لتبكيني.&& & & & && & & & & & & * & & & &* & & & *&&مع موجة هجرة اليهود السوفيات في مطلع السبعينات (الى ارض الميعاد)، ولاختناق مسرور حتى الموت في عالم الاشتراكية (السعيد)، او ان هذا الاختناق لم يكن إلا globus hystericus (لقمة الاختناق الهستيرية)، فقد ركب موجة (الخلاص المنشود) تاركا الاتحاد السوفياتي وحط بركابه في اسرائيل..&.. لم ترافقه زوجته غالا.&&.. انت يا مسرور!! عربي عراقي بهجرة روسية، أنت لا تعرف العبرية !.. انت حتى لوكنت في بلدك الأم ولا تعرف لغتها فأنت اذا غريب منكوب..&.. مسرور ! لا انت روسي فيقبلك الحشد الروسي المهاجر، وهم اكثر الناس في الارض تطرفا في العداء لكل ما هو عربي سياسيا كان أم اجتماعيا، وانت يا مسرور عربي عراقي.. &ينظر هؤلاء اليهود الروس اليك باحتقار.. &.. لست يامسرور ممن يتقبلون الغرب المستوطن بافكاره الراسمالية.. أنت يا مسرور ماركسي آمن وضحى في سبيل عقيدته، بل لعلك اصدق ماركسية من منظري السوفيات الجدد.. لاتتقبلهم ولا هم يتقبلوك.&.. &العراقيون القدامي من ملتك يا مسرور، غبت عنهم أكثر من عشرين عاما وهم رغم حنينهم الى الوطن الذي رموا بعيدا عنه، ورغم اللغة العربية المشتركة معك، لهم همومهم واتجاهاتهم وتجمعاتهم الجديدة التي نزلت الى مستوى التسوية والمهادنة بكل شيء، بالعقيدة، بالانتماء الاجتماعي، وحتى بالانشطة الثقافية والفكرية ليعيشوا عالمهم الجديد بسلام.. &انت يا مسرور لا تعرف المهادنة.. &غريب انت بينهم.&.. &لا عمل يا مسرور وانت من وضع العمل أحد اركان وجودك.. أنت ضائع يا مسرور.&.. سكن متواضع لا حضن دافيء فيه.. &اين انت يا غالا !.. اين انسجام العشرة الطويلة !.. &ذلك الانسجام العميق في الحزن قبل الفرحة.. اين أنتِ ايتها الحبيبة ؟!.. اين دفأ السرير والطعام والرعاية !.. أين الحب الذي ضاع في هذه الهجرة اللعينة.&.. &بعد اقل من شهر بدأ سفرك المكوكي بين يافا وتل ابيب حيث السفارة السوفياتية وبدأ تقديم الالتماسات طلبا للعودة الى موسكو.. رفضٌ اول.. رفضٌ ثان..&تذهب وتعود الى يافا بخفّي حنين.. &عبارة (التماسك مرفوض) تحرق روحك وما تبقى من جسمك الذاوي الذي اضحى خيالا.. ليس الالتماس وحده هو المرفوض.. انت مرفوض يا مسرور اينما حللت واينما توجهت..&.. &بدأتَ برساءل التوسل الباكي لكل من تعرفه في (الفردوس المفقود).. زوجتك تبكي لرسائلك وتبذل كل مساعيها حتى لقد ضحت ببعض من ساعات عملها وبالبيت والراحة..&.. &تمر الاشهر وكلمة (التماسك مرفوض) تتكرر.. تمر سنة واكثر و(التماسك مرفوض) تفقدك صوابك، او ما تبقى منه.&.. &حتى توسلك بـ(يفغيني بريماكوف) رئيسك في الاذاعة سابقا والذي امتدت سلطاته ابعد بكثير من الاذاعة ليكون محورا مرموقا في السياسة الداخلية والخارجية، لم تثمر رسائل توسلك اليه إلا وعداً قد لا يتعدى حدود المجاملة او الشفقة..&محاولة اخيرة تبذلها وقد قاربت سنتان على عذاب تغربك وشقاءك&.. &(صادق الجلاد) !! زميلك الاذاعي السابق والذي تربطه علاقة أكثر من متينة مع بريماكوف..&.. " انقذني يا صديقي!! "، كانت هذه مناشدتك الاخيرة.&.. &صادق وهو من عائلة عشائرية في الفرات الاوسط، تأخذه فورة النخوة.. &ينشط في مسعاه حتى الحصار الخانق على صديقه بريماكوف..&.. &كنت يا مسرور وقد اُنهكتك المساعي المكوكية حتى الرقدة المرضية في الفراش، قد كلفت زميلك في السكن بمتابعة المراجعات في السفارة السوفياتية.&.. &تسترخي انت في غرفتك الصغيرة على مقعد استراحة.. &تنصت الى صوت مفتاح الباب الخارجي يدور.. صوت اقدام تعبر صوبك..&.. " بشرى.. &بشرى يا مسرور.. لقد قُـبل التماسك.. &لقد قُـبل.. ".. &قفزت انت يا مسرور من كرسيك وصرخت بفرح هستيري " صِدُكَـ !.. صِدُكَـ !.. "&.. أمسكت بصدرك بشدة يا مسرور وسقطت ميتاً.&&التعليقات
احسنت
د امجد النعيمي -احسنت يا اخي فلاحالكتابه شيقه جدا حيث تعيدني نصف قرن لاتذكر تلك الفترة الدراسيهارجوا لك التوفيق وارجوا ان تستمر بالكتابة وانت الكاتب والطبيب والرسام والأديب بالتوفيق
الغربه
زينب -العزيز فلاح كتاباتك و لوحاتك تعبر عن معاناتك في الغربه كما هو الحال مع كل عراقي اصيل بعض النظر اذا كان مسلم او مسيحي او يهودي .و دمت لنا
شكرا لك....
الي -شكرًا لك يا أستاذ فلاح من اول حلقه وانا اتابع مذكراتك اللطيفه و الظريفه و التي تزداد سحرا و تشويقا بقراءتها و أحداثها .شكرًا على ابداءك في الكتابه و السرد الأدبي الرفيع .ودمت لنا .
عشت لنا
مغتربه -بورك الله فيك يا أستاذ ، كتاباتك تعكس عن شخصيتك و نبل اخلاقك تجاه اي انسان متغرب و مظلوم بغض النظر عن دينه او بلده .دمت لنا يا أستاذ
عاشت يداك ودام جهدك
دكتور صباح جمال الدين -اخي عقيدة وأستاذي فناً وزميلي مهنة ومشابهة عمراًوصديقي من ايام الصباأني اتابع باهتمام ما تكتب وتبهرني (الصور )الجميلة التي (ترسمها)وكأنك (تبدع رسما)في استوديو الرسم ،انك (ترسم)الأشخاص والانفعالات بقلمك الصادق الجميلدون مجاملة ولا محابات كما أعرفك طول صداقتنا اخي فلاح ان عليك مسؤولية الاستمرار فيما بدأت فيه لأسباب عديدة أولها انك تكتب تاريخ فناني بلدنا من أماكن وحالات لا ولم يطّلع عليها غيرك ،وقد آلمني ما سمعت انك تريد ان تتوقف لفترة ، كلا أيها الاخ الحبيب لان ما تكتبه ليس ملك لك انك يا اخي (ترسم) جزءاً من تاريخ شعبك فلا ينبغي لك التماهل بما هو ليس من ملكك هذه الفصول التي تبدأها بالقلم لا يعرفها ولن يراها احد ، ولا أحب ان اذكرك ما لا يحب المرحوم ابوك ان يذكر أمامه وهو فرصة العمر ، اخي فلاح أنا وانت نكتب ونعايش الناس في الوقت الضائع فلا تضيع على شعبك جزءاً من تاريخهان كل مبدع يتكاسل او يتماهل في ابداعه يقصر بحق شعبه وما عرفتك من هؤلاءدعني اسعد والقراء بحلقات (رسومك) ولَك مني ومن مثقفي شعبك ما انت أهل له
أبدعت
أميل كوهين -مسرور قطان كان مناضلا شيوعيا وقياديا في عصبة مكافحة الصهيونية وزج في السجن لعدة سنين لمبادئه. وهذه القصة واقعية وجميلة وشيقة جدا تمثل قساوة الأغتراب عن الوطن فمهما كان الملجأ أو المأوى حسنا فالهجر لعين. قصة مسرور مؤثرة جدا فهو مرفوض أينما حل وأينما توجه وحتى من العودة الى وطنه الأم. أما عن البياتي فقد قوض مبادئه الشيوعية لينخرط في التعصب القومي حيث التمييز بين اليهودي والصهيوني قد تلاشى في الخطاب القومي العربي وطريقة تصرفه مع الرفيق مسرور تدل عن نفس رذيلة. شكرا لك أستاذ فلاح على هذه القصة الجميلة وأتمنى أن تستمر في كتابة هذه القصص الرائعة وتدوين مذكراتك اللطيفة التي يسرني قراءتها