عندما يحكي القلم عن علاقات مجتمع بدوي يفيض بالحياة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من يتعمق في مطالعة رواية " الغزال العاشق " للأديبة صابرين الصباغ سيلفت نظره تمكنها من الحكي باللهجة البدوية التى يتمدد الحديث بها بين المصريون القاطنين لمنطقة الساحل الشمالي من غربي مدينة الإسكندرية ( بمصر ) إلي حدود ليبيا.. فهي لم تكتف بترصيع النص ببعض المفردات الدالة التى جاءت علي لسان ابطال روايتها عبر احاديثهم اليومية ونقاشهم في شئون الحياة العالقة بينهم.. بل قدمت لكل فصل من فصولها السبعة عشر بمثال شعبي مغزول من تلك البيئة شديدة الخصوبة والتفرد، صلة ما بمجريات الحدث الدرامي الذي تسرده بين اسطره..
مثل.. كل ما نقول نسيته، يخطر تبقي لي تنهيته.. بمعني.. كل ما تخيلت أني نسيته، نتذكره بتخرج من صدري تنهيدة.. و.. مقسا اكبودهم يا عين، إللي عليك ما ينشدوا.. بمعني.. ما أقسي قلوبهم ياعين، من علينا لا يسألون.. وهكذا..
بيئة الرواية جذبت قلم مبدعتها إلي حافة الإندماج والعشق.. أبحرت في وصف التقاليد والطقوس كأنها عاشتها أو علي الأقل شاهدتها لفترة طويلة عن قرب شديد.. فصلت العلاقات والوشائج بحرفية حرصت من خلالها علي نقل القارئ إلي الأجواء والترابطات التى قصدت إليها..أسهبت في تسطير ملامح البيئة الجرداء والرمال والصخور والأودية الغاضبة المكفهرة، والصبار والنباتات وجعلت منها المسرح شديدة الوعورة الذي عاش فوقه جيلان.. الأم المحبة حتى آخر رمق التى لم ترتبط بمن تحب، وأية زهرة اسرتها الندية التى كونها بعد أن زوجوها بمن لا تحب..
التقاليد والعادات البدوية التى فصلت المؤلفة بعضاً من تفاصيلها بين الحين والآخر كلما اضطرها الحكي سواء في حاضر الحدث أو ماضي الرواية، خاصة فيما يتعلق بالعلاج البدائي الذي يتخذ من الأعشاب والوصفات التراثية مخزناً لا ينضب لوصف الدواء وتلمس الشفاء.. تنوعت بين المداواة من الأمراض البسيطية والمستعصية ووصفات للأنجاب.. وكان طبيعيا أن تسرد لنا بطلتنا حكايتها مع مرض أبنها العضال الذي سمته " حميد " علي اسم محبوبها الذي تزوج بغيرها، فيجد القارئ نفسه - في لحظات مفعمة بالعاطفة - يعيش بأنفاس هذا الطفل وينتقل معه حيث تذهب به أمه إلي المقابر وتُعَومه عاريا في الترعة، أملا في أن يصح ويشفي وتزول عنه الغمة، لدرجة انه يتألم لموته الذي احسته أمه من أنفاسه وهي تسلب منه..
هل هي البيئة التى صنعت من سلمي تلك المرأة القوية التى تمسك بيدها دفة مسيرة عائلتها بعد ان هجرها الزوج إلي القهوة ولعب الورق، أم ان تحدي المجتمع الذي قهرها علي ما لا تحب هو الذي جعلها متجبرة ومغرورة علي حد وصف زوجها لها؟؟..
سملي تبدو للقارئ ذات شخصيتين.. الأم الرؤوم التى تحابي علي أسرتها واولادها بكل كيانها، والقاسية التى تفرض ارادتها علي الجميع.. والأب قبل الجميع.. الشخصية الأولي مستترة خلف قناع الجبروت، لدرجة أنها عندما تظهر عبر حوارات الذات الداخلية - وهي كثيرة - سرعان ما تختفي بقسوة وتعمد، يعيد سلمي إلي ما جبلت عليه..
في واحد من المقاطع الدالة.. تحدث سلمي نفسها وهي عائدة من زيارة إحدي قريباتها سيرا علي الاقدام، لتوفر أجر المواصلات.. تنظر حولها تشكو إلي الأشجار وأرصفة الشوراع والدروب والبنايات قلة حيلتها.. " هل ما أفعله بأولادي صواب؟ يتحدث جيراني عن معاملتي القاسية أبنائي.. كيف أكون أماً حنوناً ولا يوجد أب يمسك بزمام الأمور؟.. الدنيا أجبرتني علي هذا، فاولأد يحتاجون إلي القسوة الممزوجة بالرحمة.. وبأبيهم زاد أولادي واحداً.. "..
جبروت سلمي - بطلة هذا العمل ومحوره الأساسي - الذي يسيطر علي مناحي الرواية وتطور احداثها ويتضاعف عبر الجزء الثاني من الأحدث كما يلمسه القارئ في فصولها المتتالية، نابع من تجرتها الشخصية التى حولتها من فتاة محبة إلي زوجة مستبدة ساعدها صلاح زوجها علي ان تتربع علي عرش إدارة العائلة بعد ان سمع انفاسها تذهب بعيدا وهي بين يديه إلي حيث محبوبها وشاهد عينيها وهما تبحران إلي مجهول يعرفه دون ان يملك حياله برهان خيانة..
إستمرأت سملي مسئولية القيادة وساهمت عوامل كثيرة في تعظيمها داخل ذاتها، ولما رزقها الله بخلفة البنات رسخت مبادئها في اجندة يومها وليلها حتى لا يفلت منها العيار وتصحو علي ندم لا طائل من ورائه..
صرفت سلمي كل حياتها لرعاية اولادها بعد فقدها لأبنها البكر الذي سمته علي اسم محبوبها الاول.. اما صلاح فانصرف عنها حتى لا يعكر صفو حبه وولعه بها وترك لها مقاليد مملكتها ولم يبخل عليها بالقليل الذي يتكسبه..
أية أبنة سلمي الكبري دخلت في ثوب الانوثة ولفتت انظار شباب الحي البدوي.. فهذا فتحي صاحب ورشة اصلاح السيارات يحبها ويريدها وهي لا تحبه لانشالغها بنور الذي لا يجد قوت يومه.. وصفاء جارتها اللدود تشتعل نار غيرتها كلما رأت ولع الشباب بها وسيعهم الدائب ورائها، خاصة وأنها تهيم وجداً بفتحي الذي رفضت أية الإقتران به من أجل خاطر عيون نور..
عقدة الرواية تمحورت حول الفقر وما جنت أسرة سلمي من تراكماته، لذلك ترفض نور يوم ان يتقدم لخطبة ابنتها وتعيره بفقره..
ويتساءل القارئ كيف يا مبدعة وانت التى اكتويت بنار الهوي والحرمان تقدمين علي هذا الجرم؟؟ لكنها البيئة القاسية التى طحنت بطلتها بين شقي الرحي وحولتها إلي إمرأة متكدرة تحمل مسئولية أسرة تكاد تعصف بها الريح، لأن رجلها أسلم لها القياد وتعود " ألا يقوم بتبعاته الأسرية "..
هل هذا ما تنتظره منك ابنتك التي تعرف أنك لم تسعدي يوما في حياتك الزوجية.. هل بدلك الحرمان من العيش في غرام مع من تحبين إلي طاغية ومستبدة مع زوجها وأولادها؟؟ هل غشيتها سحابة المعاناة الزوجية وعقدة البعاد عن الحبيب التى نبت بين جنبيها، فطمست عن عينيها عاقبة ما قررت إتخاذه من قرارات؟؟..
وهذا الزوج المستسلم لقدره معها ظل بعيداً عن مجريات أمور أسرته حتى إستدعاه جبروت إمرأته لكي يقف بجوارها دون مناقشة حين قررت تزويج إبنتها من عجوز في مثل سن جدها - أتت به الخطبة أم إبراهيم - خلاصاً من عشق آية لنور وما سيجلبه عليها من مهانة وذل " فهو لا يملك حتى ثمن الدبلة التى سيخطها بها "..
يؤدي صلاح المغلوب علي أمره دوره بلا لون ولا طعم، ويسعده ما يسبغه عليه العريس الثري من ثناء وتفخيم لم يحظ به من قبل.. وأن كان ينكر في قرارة نفسه وصفه لسلمي بأنها أم راجحة العقل قوية الشكيمة عرفت كيف تقود سفينة أمومتها بحنكة..
اللافت لنظر القارئ أن سلمي ما تحرض صلاح زوجها علي ضرب أبنته بعدما إعترضت علي تزويجها من هذا الخرف، يستجيب بلا تفكير وان كان يندم في قرارة نفسه بعدما يري الدم الذي سال من وجهها يلطخ وجهها ويديه..
تذهب بسلمي الظنون بحثا - وهي المحبة العارفة - عن سبب يجعل ابنتها تتمسك بحبيب قلبها.. ويطوف بها خيال العذرية وتظن بأية الشر.. يدفعها إلي دائرة الهوس هذه حكاية وقعت لإحدي قريباتها التى اسرت لها بأن معشوقها " سلبها أعز ما تملك "، وتتذكر ما جرته من ذل وعار علي اهلها أجمعين..
لا يشفع شئ للإبنة المغلوبة علي أمرها، حتى الصراع الداخلي الذي يتلبس الأم في لحظات فورة غضبها مذكراً إياها بماضيها في الحب وكيف هو لا زال متمكناً منها بعد هذه السنين الطوال، لا يزحزحها عن موقفها التسلطي قيد أنملة.. ونراها في مواقف عدة قادرة علي أن تنزع عنها قناع الطبية والحنان، وترتد إلي شخصية المستبد قاسي القلب بحجة أنها تبحث عن مصلحة إبنتها..
حتى بعد أن ينجح نور في إزاحة غريمة عن طريقه، ترفضه الأم بغلظة شديدة لا تعرف هي نفسها من اين جاءتها.. بل وتسلط عليه الأب، الذي نراه يثور لأول مرة حيث يلطمها علي وجهها ويطلق مخزون ما في صدره تجاهها..
تبهت سلمي وتسأله " كيف تكلمني بها الطريقة؟ انت نسيت روحك ولا إيه "؟.. يرد عليها أن هذه الطريقة التى لا تُعجبها ستكون لهجته معها من الآن فصاعدا..
جبروتها يرفض الاستسلام، تناطحه " أسكت أنت، من إمتي طلع لك صوت؟؟.. ولما يصفعها تصرخ فيه طالبةً الطلاق !! أو ان يوافق مرغماً علي أجبار أبنته من الإقتران بالثري الهرم..
انقاذا للأسرة والبيت الذي تكاد تقضي عليه النيران التى اشتعلت لأول مرة بسببها، تتدخل أية وسط صراخ أخواتها وتعلن موافقتها علي الزواج ممن إختارته أمها.. لكن لآ ابوها ولا أمها سمعا مطلبها، فما كان منها إلا أن أقدمت علي قتل نفسها بتناول مادة كاوية.. وقبل ان يلقي صلاح يمين الطلاق علي سلمي، تسقط أية بين ايدي أبيها فاقدة الإحساس بما حولها..
تتجاور شخصيات الرواية - كما في الاساطير الإغريقية - فوق خشبة مسرح المستشفي الذي نقل إلي جسد آية بين الحياة والموت.. لكن موقف سلمي من نور لا زال رافضاً بشدة لقبوله حتى في هذه اللحظات شديدة السواد، فهو وغرامة كانا السبب فيما وقع لإبنتها وأسرتها كلها..
وبينما الكل يستبشر بألق آية قبل اجراء العملية الجراحية، كانت سلمي الوحيدة التى تشم رائحة الموت وهو يدنو منها.. الكل يتفاءل وهي تلطم خديها وتدمي وجهها، وتستسلم لأمومتها ربما للمرة الأخيرة وترجو نور أن يدخل إليها حجرتها ويشد من أزرها لعل السماء تسجيب لدموعهم جميعا..
لكن لم ينفع مع أية شئ لتُبقي علي رمق الحياة الذابل بعد أن أكلت قسوة أقرب الناس وأحبهم إليها قلبها المحب، وفتتت المادة الكاوية أنسجتها من الداخل..
فلا حضن الأم والأب الملتاعان أبعدها عن الطريق الذي تشبهثت به، ولا دفء صدر المحب الذي يتمني أن يأخذه الموت بدلاً عنها اقنعها بالبقاء..
حتى السماء لم تستجب لدعاء الأهل والمشفقين علي شبابها النضر وجمالها الأخاذ، فقد حان موعد رحيل الغزال العاشق..
استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا drhassanelmassry@yahoo.co.uk