فضاء الرأي

بين الأزمة والثورة... الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية في المسألة السورية

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


في المواجهة بين النظام السوري والمعارضة، لا توجد الآن أزمة ولكن ثورة. فلقد تخطت سوريا، منذ سنتين على الأقل، مرحلة الأزمة ودخلت مرحلة ثورة. وبينما يمكن لأطراف أي أزمة أن يتحاوروا ويقدموا التنازلات ويلتقوا في منتصف الطريق، فإن الحوار الوحيد الممكن في ظل الثورة هو حوار الرصاص. ولهذا، من الغريب أن يتحدث بعض السياسيين في أمريكا وروسيا وأوروبا، إضافة إلى بعض دول المنطقة، عن الحل السلمي للصراع في سوريا. فما هو الحل السلمي الذي يتحدثون عنه، وكيف يمكن أن يتحقق؟ هذا سؤال واحد فقط من أسئلة كثيرة، أما الإجابات عليها فقليلة، فيما تتعدد المشكلات والحلول شبه معدومة.
وإذا كانت مواجهة المعارضة مع النظام تقوم على أساس الثورة وليس الأزمة، فإن الثورة السورية نفسها تواجه الآن أزمة انقساماتها، وهناك أكثر من أزمة مرشحة للظهور على الصعيدين الإقليمي والدولي بشأن المسألة السورية. ولفهم المشهد السوري الحالي على حقيقته ينبغي العودة إلى أكثر من أربعين سنة مضت عندما تمكنت الطائفة العلوية من الهيمنة والسيطرة على سوريا من خلال وقوفها وراء مجموعة من العائلات العلوية التي سيطرت على النظام وفرضت نفوذها على جميع أقليات سوريا وعلى الأغلبية السنية فيها. ولقد كان الرئيس حافظ الأسد، مؤسس النظام السوري الحالي، صاحب الحنكة السياسية الكبيرة التي يفتقر إليها ولده بشار، يعلم جيداً منذ البداية هشاشة الأرض التي يقف عليها في حكمه، ولهذا فقد وجه لنفسه، وبعض خبرائه وأعوانه الموثوقين، السؤال: كيف يمكن لأقلية أن تحكم أكثرية؟. ويبدو انه كان يعلم في قرارة نفسه، وبالرغم من إقدامه على مذبحة حماة، أن سياسة القمع والقتل والتخويف لن تكون كافية وحدها للمحافظة على أمن النظام واستقراره، خاصة وأن مجموعة الأسر العلوية التي يعتمد عليها تمثل جزءاً فقط من الطائفة العلوية التي ينتمي إليها وليس كلها؛ فهناك دائرة علوية صغيرة ضمن دائرة علوية أكبر، وهناك بعض الأهمية في التمييز بينهما، فلقد تبين الآن بوضوح أن بعض العلويين في سوريا أعلنوا معارضتهم لنظام بشار الأسد، كما امتنع آخرون منهم عن تبرير ممارسته القمعية أو الوقوف بجانبه، ولكن هذا التفريق لا يعني عدم وجود مشكلة بين الطائفة العلوية، من طرف، وسوريا كلها من طرف آخر.
وللتعامل مع هذه الإشكالية المهمة فلقد وضع حافظ الأسد لحماية نظامه سياسة تعتمد على القمع والعنف عند الضرورة، كما تعتمد أيضاً على اختراق جميع الأقليات الأخرى والأغلبية السنية. وحاول بشار الأسد التمسك بهذه السياسة، ولكنه لم ينجح فيها بالشكل المطلوب، وذلك بالرغم من سياسة الإصلاح التي انتهجها في التوجه التدريجي نحو السوق المفتوح وإشراكه لبعض التجار السنة في مشاريع الدولة الاقتصادية.
وإضافة إلى إخفاق بشار في اختراق المجتمع السوري فلقد ارتكب خلال السنوات العشر الأخير مجموعة من الأخطاء الكبيرة القاتلة في سياساته المحلية والإقليمية، كانت تنقله دائماً من مشكلة إلى مشكلة ومن أزمة إلى أزمة. وتتمثل أول هذه الأخطاء في اندفاعه الكبير وراء إيران وعدم حرصه على موازنة ذلك بعلاقته مع المملكة العربية السعودية، وهو التوازن الذي كان والده يهتم به كثيراً أثناء فترة حكمه. ويتعلق الخطأ الثاني في تعامله مع الملف اللبناني وتورطه من خلال حليفه، حزب الله، بتدبير عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. وتتضح أهمية هذا الخطأ الفادح في ضوء الكثير من المؤشرات عندئذ، والتي كانت تدل على رغبة القطاع الخاص السعودي والخليجي في الاستثمار في سوريا، واهتمام رفيق الحريري، بوصفه رجل أعمال كبير، بإنشاء مشاريع سياحية مشتركة بين سوريا ولبنان على نطاق واسع. ولكن الخوف، كما يبدو، من توسع دور رفيق الحريري الاقتصادي في سوريا، والاستسلام للضغوط الإيرانية، دفعا بشار الأسد إلى ارتكاب خطأ التورط في اغتيال الحريري. وأعقب ذلك أيضاً تورط نظام بشار الأسد باغتيال العديد من الشخصيات اللبنانية السياسية والإعلامية وما نتج عن ذلك من نشر "الغسيل الوسخ" للنظام السوري في الدول العربية وأوروبا وأمريكا. ولعل أشد أخطاء بشار الأسد حماقة تمثل في سوء تعامله مع انتفاضة الشعب السوري، التي بدأت في درعا قبل ثلاثة أعوام، حيث استخدم القوة المفرطة في التعامل مع تجمعات طلابية محدودة جداً خرجت من مدارسها متأثرة بجروح الربيع العربي. لقد كانت هذه المظاهرات هي نقطة البدء في انتفاضة الشعب السوري السلمية، والتي تحولت بعد بضعة أشهر إلى ثورة مسلحة كاملة. وفرضت الثورة السورية نفسها على الواقع السياسي السوري والإقليمي والدولي وأصبحت لها تداعيات إقليمية وعالمية كبيرة. والثورة السورية في طبيعتها الحالية هي ثورة كرامة وثورة أيديولوجية دينية جهادية. إنها ثورة كرامة قادتها جماعات من الطبقة الوسطى السورية ضد التسلط والظلم والطغيان، وليست ثورة فقراء جياع ثاروا لأجل لقمة العيش، ولكن سرعان ما انضم غالبية فقراء سوريا للثورة بسبب كرههم للنظام السوري المستبد الظالم. وخلال أحداث وتطورات الثورة السورية أصبحت هذه الثورة تقوم على أساسين اثنين عوضاً من أساس واحد؛ فإلى جانب كونها ثورة كرامة أصبحت أيضاً ثورة دينية جهادية. والدافع الأول لإدخال هذا العنصر المستجد على الثورة السورية هو تمسك النظام بهويته العلوية وحصوله على الدعم المستمر من إيران وحزب الله لحماية نظامه المتهالك.

فما هي الأبعاد والتداعيات الإقليمية والدولية للثورة السورية؟
بادئ ذي بدء أقول إن الإجابة الأفضل لهذا السؤال تتطلب التمييز بين مرحلتي ما قبل وما بعد استخدام السلاح الكيماوي من قبل النظام السوري ضد شعبه. فعلى الصعيد الإقليمي وقبل استخدام السلاح الكيماوي يمكننا ملاحظة أن تزايد عدد القتلى واللاجئين السوريين قد أدى إلى زيادة وتيرة وحدة رفض دول المنطقة لأعمال العنف والقمع التي يقوم بها النظام السوري، وتأتي في مقدمة هذه الدول تركيا والمملكة العربية السعودية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى والأردن. وارتبطت مواقف هذه الدول بأسباب إنسانية أولاً، وأسباب سياسية ثانياً تمثلت في معارضتها لدموية النظام السوري واعتماده الكبير على إيران وحزب الله في قمع شعبه وتسهيله توسيع النفوذ الإيراني في جنوب لبنان والعراق، الذي أصبحت حكومته تتجه أكثر وأكثر نحو تبعيتها للنظام الإيراني.
فإيران والعراق وحزب الله يدعمون النظام السوري من طرف، وتركيا ودول مجلس التعاون الخليجي والأردن تدعم المعارضة السورية من طرف آخر. ومن التأمل في الصفة المذهبية لكل طرف من هذه الأطراف تبرز مباشرة مشكلة الإنقسام السني - الشيعي في هذه المسألة، وانحياز الشيعة بصفة عامة لجانب نظام بشار الأسد، وانحياز السنة بالمقابل لصف المعارضة السورية. يضاف إلى ذلك انحياز العلويين في شمال لبنان وتركيا إلى جانب النظام السوري. فالمشهد بصفة عامة يؤكد أن الفتنة الطائفية قد بدأت تكشر عن أنيابها في المنطقة بعد تطورات أحداث الثورة السورية. وعلى الرغم من أن الفقه الشيعي القديم يتخذ موقفاً قوياً في رفضه للفكر الديني للفرقة العلوية، وهو موقف يصل أحياناً إلى حد تكفيرها، فإن التقارب السياسي بين سوريا وإيران قد منع بروز هذه المسألة بين المَلالي في إيران. إن الفتنة الطائفية السنية - الشيعية المتزايدة في المنطقة والمتأثرة بالظروف السورية، هي أمر قبيح فعلاً، وينبغي التعامل معه بحذر ومواجهته بجديةٍ كاملة، وذلك قبل توسع نطاقه إلى العالم الإسلامي بأكمله. ينبغي على السنة أن يكونوا قادرين على التمييز بين كرههم للنظام السوري وبين علاقتهم بالشيعة. وينبغي على الشيعة أن يكونوا أكثر حكمة في تقدير أهمية علاقتهم بالسنة.
ويتضمن البعد الإقليمي للحالة السورية أيضاً دور جامعة الدول العربية في معالجة هذه المشكلة، الذي تمثل في الوساطة أولاً ثم الإدانة لنظام بشار ثانياً، وصولاً إلى وقف عضوية سوريا في الجامعة العربية ثالثاً. بَيد أن أهم عنصر من عناصر البعد الإقليمي للحرب في سوريا يتعلق بالجماعات التي قدمت للقتال إلى جانب النظام السوري أو ضده؛ فهناك حزب الله الذي رمى بثقله العسكري الكامل لجانب النظام السوري، إضافة إلى بعض الجماعات الشيعية في العراق وغيرها، وهناك بالمقابل الجماعات الإسلامية الأخرى التي قدمت للقتال ضد النظام السوري وبعضها على صلة بالقاعدة مثل جبهة النصرة، ودولة الإسلام في العراق والشام. إن الإدراك الكامل لدور وثقل هذه الجماعات الجهادية وتأثيرها الكبير لن يتضح إلا إذا عرفنا أن بعض التقارير الدولية تقدر عدد أفرادها بحوالي مئة ألف مقاتل، بما في ذلك أفراد الجماعات السورية التي ترفع شعار الجهاد في الثورة السورية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين السوريين. ولقد بدأت بعض مشكلات هذه الجماعات تظهر في عمليات الإقتتال بينها وبين قوات الجيش الحر، وكذلك بينها وبين الأكراد في شمال شرق سوريا. وينبغي أن نأخذ في الإعتبار سلبيةً أخرى لهذه الجماعات، إذ أن حجمها وإيديولوجيتها الجهادية يزيدان من تردد الغرب في التدخل ضد النظام السوري وضد قوات حزب الله وطردها من سوريا. فلسان حال الكثير من السياسيين بالغرب في هذه المسألة قد يقول: "دعوا الأشرار يقاتلون الأشرار".
وهناك البعد الإقليمي المتعلق بإسرائيل في المسألة السورية. فإسرائيل دولة قوية في المنطقة مجاورة لسوريا ومناطق حزب الله في لبنان. والنظام السوري لم يتورط بأي صدام عسكري فعلي مع إسرائيل منذ حرب أكتوبر (تشرين أول) 1973، ولكنه بقي في كل هذه السنوات يرفع شعار "الصمود والمواجهة" مع إسرائيل. ولقد سَخِر الكثيرون من موقف النظام السوري هذا، واتهمه البعض بتأمين الحماية لإسرائيل من خلال إبقاء جبهة الجولان هادئة. ولكن النظام السوري حليف قوي لإيران وحزب الله، وهما أشد أعداء إسرائيل في المنطقة، وذلك من حيث المواقف والتصريحات الرسمية على الأقل. وأما الحكومة الإسرائيلية فلقد أعلنت من جانبها منذ بداية الثورة السورية أنها لن تتدخل في أحداث سوريا، وأن الخطر الحقيقي الذي يواجهها يأتي من إيران، ولهذا فإنها ستراقب الوجود العسكري الإيراني في سوريا ووجود قوات حزب الله فيها، وكذلك وجود الجماعات الجهادية بحذر شديد. فإسرائيل لم تعلن، من منظور أمنها القومي، بأنها تفضّل بقاء نظام بشار أو انتصار الثورة ضده.
هل هناك المزيد من المشاكل والتعقيدات في أيام الثورة السورية المقبلة؟ أم أن هناك نوراً في آخر النفق سيطل أخيراً على الشعب السوري المظلوم والمقتول؟
في متابعتي لمناقشة المسألة السورية سوف أستعرض باختصار ما بقي من الاعتبارات الإقليمية لهذه المسألة، وخاصة في الفترة التي أعقبت استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية. ثم سأنتقل لمناقشة تطورات المواقف الدولية الرئيسية تجاه سوريا قبل وبعد استخدام السلاح الكيماوي.


*كاتب ومحلل سياسي سعودي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف