فضاء الرأي

"يلن" وحروب العملات القادمة

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

تحدثت الصحافة اليابانية في شهر أكتوبر الماضي عن تعين الرئيس الأمريكي باراك أوباما، للدكتورة جانيت يلين، البالغة من العمر 67 عاما، كرئيسة للاحتياطي الفيدرالي وهو البنك المركزي الأمريكي. والجدير بالذكر بأن السيدة يلين تخرجت من جامعة برون، ودرست العلوم الاقتصادية بجامعة يل، وعملت كأستاذة بعدة جامعات متميزة كجامعة هارفارد، وبيركلي، وكلية لندن الاقتصادية، وهي متزوجة من عالم اقتصاد أمريكي حاصل على جائزة نوبل. والجدير بالذكر بأن الدكتورة يلين يهودية الديانة، وتؤمن بأهمية دور البنك المركزي في توفير الوظائف، مع دعم الاقتصاد لتحقيق ذلك. وقد عارض نائب ولاية تكساس، جون كورنين، تعينها بقوله: "تعتبر يلين من المدرسة اللبرالية في التفكير الاقتصادي، والتي تؤمن بأن الطريقة المثلى للتعامل مع التحديات المالية للشعب الأمريكي، هي بإلقاء نقود أكثر عليهم. وفي اعتقادي بأن الدعم المالي اللامحدود هو السبب وراء الكارثة المالية التي نعيشها اليوم، وأخر شيء نحتاجه اليوم رئيس للبنك المركزي الامريكي يعمل على ضخ أموال هائلة في ميزانية الحكومة الفدرالية، لتضر باقتصاد بلادنا."
لقد أسس نظام الاحتياطي الفدرالي في عام 1913، بعد أن تعرض الاقتصاد الامريكي لازمات كثيرة، وهو نظام بنكي مركزي، وقد حدد الكونجرس ثلاث مهام نقدية لهذه المؤسسة وهي: خفض نسب البطالة، والعمل على ثبات الاسعار، والمحافظة على نسب الفائدة البنكية معتدلة. وقد توسعت مهام هذه المؤسسة مع الوقت لتشمل اليوم: وضع السياسات المالية للبلاد، وتنظيم ومراقبة المؤسسات البنكية الامريكية، والمحافظة على استقرار النظام المالي، وتوفير الخدمات المالية للمؤسسات البنكية الأمريكية، والحكومة الأمريكية، والمؤسسات الرسمية الاجنبية، بالإضافة للقيام بالأبحاث الاقتصادية، وإصدار دوريات اقتصادية عديدة.
ويقوم الرئيس الأمريكي بتعين الرئيس ونائب رئيس الاحتياطي الفدرالي، بعد تصديق الكونجرس على اختياره. وتمثل في ادارة الاحتياطي الفدرالي القطاع العام والخاص، وتعتبر مؤسسة مستقلة في عملها، حيث لا تحتاج تصديق قراراتها من الرئيس الأمريكي أو الكونجرس، ولا تحصل على أي دعم مرتبط بتصديق الكونجرس. وتنقل ارباح هذه المؤسسة إلى خزانة الدولة، بعد أن تدفع فوائد البنوك المشاركة، وقد سجلت ربحية تقدر ب 82 مليار دولار في عام 2010، وتم نقل 79 مليار منها للخزانة الامريكية. كما تقوم هذه المؤسسة بتوازن في توفير كميات الدولار في السوق، في وقت الزيادة أو النقصان حسب حاجة السوق، كما تقوم بقرض المؤسسات المالية.
وقد صدر في طوكيو كتابا بعنوان حروب العملات، يلقي الضوء على دور هذه المؤسسة في حروب الألفية الثالثة القادمة. وقد ألف هذا الكتاب السيد جيمس ريكاردس، وهو خبير مصرفي أمريكي، والمستشار الاقتصادي لوزارة الدفاع والمخابرات الامريكية، كما لعب دورا في تنظيم أول لعبة حرب مالية عالمية للبنتاجون الأمريكي، وهو أيضا محاضر بكلية الدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية. ويقول الكاتب في مقدمة كتابه: "تحدث الرئيس الأمريكي رتشارد نكسون في مساء ليلة أحد هادئة، وفي الخامس عشر من شهر اغسطس عام 1971، ليعلن على الهواء مباشرة عن سياسته الاقتصادية الجديدة. فقد قررت حكومته بوضع نظام جديد للسيطرة على الاسعار في السوق، مع رفع الضرائب على الواردات الأجنبية، ومنع تحويل الدولار للذهب. فقد كانت البلاد في خضم كارثة مدمرة، بسبب حرب العملات، والتي أدت لفقد الثقة بالدولار الامريكي، لذلك قرر الرئيس الحاجة لقرارات صارمة."
ويعلق الكاتب على الازمة الاقتصادية القادمة فيقول: "ويعيد التاريخ نفسه اليوم، فنحن نعيش حرب عملات جديدة، وطوفان كارثة قادمة بفقد الثقة في الدولار. وستكون النتائج هذه المرة أكثر سوءا مما واجهه الرئيس نيكسون من قبل، بعد أن استحال السيطرة على تنمية العولمة، وربحية سوقها الحرة خلال العقود الاربعة الماضية. ومن المحتل أن يبدأ طوفان هذه الكارثة في سوق العملات، وينتشر سريعا في سوق الاسهم، والسندات المالية، والسلع. وحينما ينهار الدولار ستنهار الاسواق المرتبطة بالدولار ايضا، لينتشر الرعب في جميع أنحاء العالم، وكنتيجة لذلك سيقف الرئيس الأمريكي، وربما سيكون باراك اوباما، ليعلن على الهواء مباشرة، وعلى الانترنت، بخطة راديكالية في التدخل لمنع الانهيار الكامل للدولار الأمريكي، وقد تشمل هذه الخطة الرجوع لمعادلة الدولار بالذهب. ولو استخدم الذهب لمعادلة الدولار سيرتفع سعر الذهب بشكل هائل، ليغطي سعر كمية الدولارات المتضخمة المطبوعة مع الكمية المحدودة من الذهب المتوفرة في العالم. وسيدفع الأمريكيون ضرائب بنسبة 90% على ما استثمروه من الأموال في الذهب الذي يملكونه، وباسم العدالة، كما سيتم مصادرة الذهب الذي ودعته الدول الأوربية واليابان في بنوك نيويورك لدعم سياسة تقوية الدولار. وطبعا سيحصل الاوربيين واليابانيين على رصيد بدل الذهب المصادر، بقيمة دولارات، بسعرها المرتفع الجديد ... ولن يكون النظام المالي العالمي كما كان قبلا."
ويؤكد الكاتب هذه الحقائق بقوله: "هذا السيناريو ليس حلما يراودني، بل هي حقيقة متكررة عاني منها العالم من قبل. فقد انهارت العملات مرارا في الماضي، وتم تجميد الارصدة البنكية للمواطنين، وصودر الذهب، وفرض السيطرة على رأسمال. فلم تكن الولايات المتحدة محصنة ضد تلك الاحداث، فقد تكررت مرارا منذ عام 1770 وحتى سبعينات القرن الماضي، ومن خلال الثورات، والحروب الاهلية، والكساد الكبير، وفترة التضخم في عهد الرئيس كارتر. وفي الحقيقة لم يحدث انهيار الدولار منذ أجيال مضت، وقد تكون تلك دلالة بأن الانهيار القادم للدولار تجاوز زمنه. وهذه ليست نظرية تخمين، بل حقائق قرب وصولها ملموسة على أرض الواقع." ويعلق الكاتب على قيادة البنك المركزي الامريكي فيقول: "البنك المركزي الامريكي، وبقيادة رئيسه بن برنانكي يقوم بمقامرة هائلة في تاريخ المال، فمع بداية عام 2007 حارب هذا الرئيس الانهيار الاقتصادي، بخفض الفائدة على القروض القصيرة الامد، وأشاع الاقراض بحرية، لتزل الفائدة للصفر. ويبدو بأنه ليس للرئيس أية وسائل اضافية لمنع انهيار الدولار. ولكنه اكتشف في عام 2008 وسيلة اخرى، وهي خفض الفائدة على القروض الطويلة الامد، ودعم برنامج لطبع الدولار لرفع النمو الاقتصادي. ويحاول بذلك تضخيم قيمة الاصول، وقيمة السلع، وأسعار المستهلكين، لكي يوازن التضخم الذي يخلفه الانهيار الاقتصادي. فهو مشغول بحرب شد الحبل ضد انهيار الاسعار التي عادة ترافق الكساد الاقتصادي. وكلعبة شد الحبل لا يحدث الكثير في البداية، ومع الوقت تتوازن قوى الطرفيين لتتوقف الحركة لفترة، مع زيادة الشد على الحبل، وفي النهاية ينهار طرف، ويتجاوز الطرف الاخر خط التنافس، ليسجل انتصاره. فالحبل في هذه اللعبة هي القناة التي تنقل فيها الضغط من طرف إلى اخر، وهو الدولار، وهذا الكتاب يناقش نظرية الحبل في لعبة برنانكي الاقتصادية."
ويوضح الكاتب بأنه في لعبة الحبل الاقتصادية لرئيس البنك المركزي الامريكي برنانكي المنافسة الحقيقة هي بين التضخم والانكماش الاقتصادي، بينما يكون الحبل هو الدولار. فالدولار الأمريكي يتحمل ضغوط جميع هذه القوى المتضادة، وليبعثر هذه الضغوط الاقتصادية حول العالم. وتعبر قيمة الدولار الحقيقة في السوق عن من الفائز في هذه اللعبة، والتي هي حرب عملات حقيقية، يتم فيها الاعتداء على قيمة الاسهم والسندات والسلع الموجودة في السوق العالمية، وذلك برفع قيمة الاصول الامريكية من خلال زيادة طبع أوراق الدولار وبدون أية قيمة ذهب تدعمه، وذلك لتحسين اوضاع البنوك الامريكية وتذويب ديون الدولة، بينما تخسر الدول قيمة ثرائها المخزون في البنوك الأمريكبية وبالدولار الأمريكي الغير مدعوم بأي قيمة ذهب حقيقية. فيعتقد برنانكي بأنه حينما يفرط من طبع دولارات ورقية بصورة غير مسبوقة، وفي نفس الوقت تكون هذه الأوراق النقدية غير مدعومة بقيمة الذهب، سيحسن وضع الاقتصاد الأمريكي، وهو جالس في مركزه يأمل الاحسن وغير مستعد للأسوء.
والحقيقة بأنه هناك خطر كارثي بأن يتحول فرط طبع الدولار فجأة لتضخم اقتصادي خطير، ويؤدي لانفجار فقاعة جديدة في اسعار الاسهم والأراضي والسلع والأصول الأخرى. كما يدعي برنانكي بأن لدية اسلحة لمحاربة هذه الاختلاطات المتوقعة، ولكن يبدو بأن هذه الاسلحة الاقتصادية لم تجرب من قبل ومشكوك في مدى فعاليتها، كما أن معالجة الكارثة القادمة بزيادة قيمة الفائدة، وتقليل طباعة الدولار لخفض توفره في السوق لرفع قيمته في السوق، سيؤدي لانكماش اقتصادي خطير. فالاقتصاد الامريكي يعيش اليوم على حافة حدي سيف الانكماش والتضخم الاقتصادي، ويتسائل الكثير من المستثمرين ورجال الاعمال والقوى العاملة إلى متى سيستطيع برنانكي المحافظة على هذا التوازن على حافة السكين. وطبعا سيؤثر كل ذلك على الاقتصاد العالمي، فزيادة طباعة الدولار وبدون دعم قيمته بالذهب، يعني في الحقيقة حرب عملات حقيقة على باقي دول العالم، والتي تتعامل في تجارتها بالدولار، بل وتحافظ على ما وفرته من أموال لأجيالها القادمة ايضا بالدولار. فكلما زادت طباعة أوراق الدولار وبدون دعم فعلي لقيمته بالذهب، سيؤدي ذلك لخفض قيمة مدخرات دول العالم، ولتستفيد الولايات المتحدة بخفض قيمة ديونها، كما سيودي لفقد التوازن في التجارة العالمية، حيث سترخص قيمة البضائع الامريكية لتزيد مبيعاتها ولتزداد انتاجية مصانعها مع خفض نسب البطالة في بلادها، بينما ستعاني الدول النامية من خفض مبيعاتها، ولتنخفض انتاجية مصانعها، وتزداد نسب البطالة في دولها، مما سيودي لتضخم اقتصادي في الصين، وزيادة اسعار الغذاء في مصر، وانفجار فقاعة الاسهم في البرازيل.
وقد بدأت الدول بالرد بحرب مضادة ضد حرب العملات الأمريكية، وذلك بدعم منتجاتها، وبزيادة الضرائب على السلع الامريكية، وتنظيم تجارة رأس المال. فقد تنتشر حرب العملات بسرعة، وسيودي ذلك ليس فقط لتدهور الاقتصاد العالمي، بل ايضا لتدهور الامن العالمي بأكمله. وطبعا كل ما ينفذه برنانكي يخالف ما وعد به وزير المالية الامريكي، تموثي جيثنر، في عام 2011 حينما قال: "أريد أن اوضح للجميع بان سياستنا كانت، وستكون، دائما، هي أن الدولار القوي هو في صالح بلادنا، ولن ندعم سياسة تضعف الدولار، لنسجل فوائد اقتصادية ضد مصالح شركائنا في التجارة العالمية." وطبعا ما هي وعود إلا على الورق، والمشكلة الأكبر بأنه في نفس الوقت تزداد نسب الفقر في الولايات المتحدة، ويتجمع الثراء في يد حفنة قليلة، بينما تنمحي الطبقة الوسطى. فمثلا تبين الاحصائيات الاقتصادية بأن عائلة أمريكية واحدة تملك ما يملكه 110 مليون من الشعب الأمريكي الأقل دخلا. كما ان هناك أكثر من 40 مليون أمريكي تحت سقف الفقر، وما يقارب 46 مليون لا تتوفر لديه تأمين صحي، بينما 25 مدير شركة استثمارية ربحت 22 مليار دولار. كما زاد تباين الثراء في المجتمع الأمريكي فارتفع مؤشر جني من 38.6 في عام 1968 إلى 47 في عام 2006 وهو مستمر في الارتفاع، ليساوي اليوم مؤشر جني للمكسيك في تباين الثراء. ويبقى السؤال: هل حان الوقت للعمل على عملة خليجية مشتركة، وربما عملة عربية موحدة، قبل أن تنمحي قيمة الأموال العربية المودعة في البنوك الأجنبية؟ وهل هناك حاجة لسوق عربية مشتركة للتعامل مع التحديات الاقتصادية القادمة؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف