فضاء الرأي

شارع الذكريات (7): أين اختفى والدي في أواخر 1959؟

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ها أنا أعود ثانية إلى أيام طفولتي وبالتحديد إلى 1959-1960. أذكر أن والدي كان من المقربين للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وموضع ثقته، حيث عمل معه واسهم في إدارة وتحرير صحيفته - الرأي العام.
أتذّكر أن والدي كان يقول لنا انه كان يكتب بين الحين والحين مقالات "الجواهري" الافتتاحية حينما ينسى كتابتها. وفي الكثير من المرات، كان والدي يخفف أو يلطف من لهجة بعض المقالات التي كان يكتبها الجواهري (ليحميه من نفسه - كما يقال)، لكي لا يكون هناك شكوى على الصحيفة أو على الجواهري أو حتى سبب لإغلاق الصحيفة (خاصة بعد أن تأزمت العلاقة بين عبد الكريم قاسم والجواهري).
اذا رجعت إلى تلك السنين ربما اعتقدت أن والدي يبالغ في دوره ولكن بعد أن نشر الصحفي والكاتب مازن لطيف مقالاً عن سيرة حياة والدي، عقّب احد معارف والدي و"عائلتنا" والذي لا نعرف هويته حتى الآن حيث وقع باسمه المستعار "المنسي القانع":
"عزيزي مازن وددت أن أضيف معلومة لطيفة عن قوة العلاقة والثقة بين الجواهري والبصون، ففي جريدة الرأي العام التي كان يديرها بالكامل أبو خضر والجواهري يكتب المقال الافتتاحي الذي كثيراً ما كان ينسى كتابته وإرساله لذا أعطى الجواهري الحق لأبي خضر بكتابة المقال الذي ينزل في الجريدة بتوقيع الجواهري !! هكذا كانت الثقة بينهما وهكذا كان البصون قادرا على قراءة فكر الجواهري ونبض الشارع العراقي"
في العطل كنت احب أن ازور والدي في الجريدة وانظر إلى الناس الذين يدخلون ويخرجون، يسلمون عليه والبعض يجلب له المقالات وغيرها من المواد المعدّة للنشر. كنت احب رؤيته وهو ينقح عشرات المقالات بقلمه "الباركر" الذهبي- لا يمكن أن ينشر شيء بدون موافقته. أهداني والدي هذا القلم عندما تخرجت من كلية الهندسة في جامعة بغداد في سنة 1970 ولا زلت احتفظ به. كانت غرفة والدي مقابل غرفة الجواهري في راس القرية وفي احدى زياراتي للجريدة عرفني والدي بهذا الشخص الطويل النحيف الذي لم تفارق السجائر شفتيه!
من الأماكن التي بهرتني وانا في تلك السن اليافعة كانت غرف إعداد الصحيفة للطبع. كنت معجب بمهرة العاملين بالتنضيد والنقش والصب وكيف يعملون مع ماكنات اللينوتايب المعقدة. كان معظم العاملين من كبار السن، قضوا عشرات السنين في هذه المهنة الصعبة. كان البعض منهم يسمح لي بطبع بعض الكلمات أو الأسطر، بمساعدتهم في التنضيد، وحتى الإسهام في وضع المانشيتات (العناوين). كان والدي بارعاّ في صياغة العناوين الرئيسية في الصحيفة لجذب القارئ لقراءة المقال أو الخبر. أمّا مكائن الطبع الضخمة فكانت تتراءى لي كطفل كوحوش تلتهم الورق الحليبي اللون بسرعة فائقة من الأمام لتلفظه من الخلف مطبوعاً.
لا اعلم لماذا استذكرت كلمة "المانشيتات" - جمع "مانشيت" هذه الكلمة لم اسمعها لأكثر من خمسين سنة! استرجعتها فجأة من أعماق ذاكرتي وانا اكتب هذه السطور. غريب كيف نذكر كلمات من أعماق الماضي! من الجدير بالذكر أن كلمة مانشيت هي كلمة فرنسية تعني معصم القميص النسائي الذي يكون من قماش آخر.
عام 1959 شهد تأسيس العديد من النقابات المهنية ومن ضمنها نقابة الصحفيين العراقيين. كنت اعلم أن الجواهري قد انتخب رئيسا لنقابة الصحفيين (بعد انعقاد المؤتمر التأسيسي في أيلول). تلاشت هذه الذكرى أو معناها لعشرات السنين حتى قرأت مقالاً في آب 2011 في الحوار المتمدن بقلم الأستاذ جاسم المطير حول انتخاب الجواهري، حيث ورد فيه: "انعقد المؤتمر في موعده (1959). تعرفت في يومه الأول على الصحفي سليم البصون وعبد المنعم الجادر، اللذين امتدت صداقتي معهما زمنا طويلا إلى حين مغادرة الأول إلى لندن قبل منتصف سبعينات القرن الماضي حيث ودعته قبل يومين من سفره وامتدت مع الثاني إلى ما قبل رحيله. أسرّني سليم البصون المحرر في جريدة الجواهري (الرأي العام) أن المعركة الانتخابية ستحتدم بين محمد مهدي الجواهري وقاسم حمودي صاحب (جريدة الحرية) المعادية للشيوعية واخبرني بضرورة التعبئة الانتخابية للجواهري، بينما كان سعود الناصري واثقا من فوز الجواهري ثقة مطلقة غير قابلة للنقاش، خاصة بعد فترة ازدهار المنظمات الديمقراطية.............................. كان البصون - وهو على حق - يظن أن الصحفيين المحيطين بالزعيم عبد الكريم قاسم ومنهم يونس الطائي صاحب (جريدة الثورة) الذي كان يحمل حقدا شخصيا في كتاباته على الشيوعيين عامة وعلى الجواهري خاصة."
من الجدير بالذكر إنني كنت قد سافرت إلى إنكلترا قبل زهاء السنة والنصف من سفر والدي وهكذا اخبر والدي أصدقاءه ومعارفه انه مسافر لزيارتي وفي الحقيقة سافر مع والدتي إلى إسرائيل عن طريق تركيا بعد إن لم يبق أي معنى في البقاء في العراق بعد خروج أختاي أيضاً.
كان الصراع بين القوى "اليسارية" وعلى رأسها الشيوعيون والقوى "القومية" وعلى رأسها البعثيون والناصريون على أشدّه واخذ طابعاً دموياً. في أيلول تم تنفيذ الإعدام بالرصاص في أم طبول بوجبة أخرى من الذين اتهموا بالمشاركة في محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها الشواف. من ابرز الذين اعدموا كانوا ضباط كبار أمثال ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري. كان هؤلاء ضباط قوميين محسوبين على التيار الناصري.
اذكر أن في أوائل تشرين الأول 1959 كانت هناك محاولة فاشلة من قبل البعثيين لاغتيال عبد الكريم قاسم (شارك فيها صدام حسين) والتي على اثرها ادخل قاسم إلى مستشفى دار السلام ليعالج من الرصاصات التي أصابته. بعد أيام من هذه المحاولة وانا في مدرسة فرنك عيني، في الصف الخامس الابتدائي، جاءت المرحومة ست ياسة، مدرسة العربية، (وزوجة المرحوم الصحفي نعيم طويق) للصف لتطلب مني أن ارجع للبيت لان والدي اعتقل!
والدي اعتقل، لماذا؟ هل والدي اشترك مع البعثيين في محاولة الاغتيال؟!! والدي من مؤيدي عبد الكريم ويعمل كسكرتير التحرير في صحيفة الرأي العام للجواهري، المؤيدة لقاسم - لا افهم لماذا اعتقل. رجعت إلى بيت بدون والد، وأنا أتساءل أين اختفى والدي؟ بعد أيام سمعت من والدتي أن والدي معتقل في السماوة. هكذا اختفى والدي لعدة أسابيع ظننتها اشهر. شعرت بفقدان الأب وانا ابن العاشرة. والدتي مسؤولة عني وعن طفلتين صغيرتين - كهرمان بنت الثلاث سنوات ونيران بنت السنتين وليس لنا مورد مالي. لا استطيع أن أمحو من ذاكرتي تلك الليلة الظالمة الماطرة الباردة في تشرين الأول أو الثاني. هطلت الأمطار منذ الظهيرة بغزارة ولم تتوقف، وتسربت المياه إلى داخل البيت. لم نستطع الخروج من البيت ولم يكن هناك إلا ثلاث بيضات مسلوقة للعشاء وربما بعض الخضراوات. اذكر اني ساعدت والدتي على جرف المياه من البيت واذكر دمعات والدتي التي لم تستطع أن تخفيها عني.
بعد سنين فهمت انه كان هناك خلافات عميقة بين انصار قاسم وخصومه المتنفذين في السلطة وفي وزارة الدفاع خاصة. اغتنم خصوم قاسم الفرصة، في الوقت الذي كان هو في المستشفى، والقي القبض على والدي بأمر الحاكم العسكري العام بتهمة خلق الفتنة والاضطراب والإساءة إلى أنظمة الحكم العربية. حسب ما سمعت انه جرت محاولة لقتل والدي ولكنه نجى منها بأعجوبة ثم نقلوه إلى مدينة السماوة في جنوب العراق واحتجزوه هناك. حين علم قاسم بالأمر، بعد أن اخبره الجواهري وهو في مستشفاه، اصدر قاسم أمراً بإطلاق سراح والدي "فوراً" وأعادته إلى بغداد. لكن هذا الأمر الصادر من اكبر شخص مسؤول في الدولة استغرق تنفيذه حوالي الشهر والنصف رغم التوصيات. أذكر أن والدتي ذهبت أيضاً لمقابلة ماجد أمين الذي كان يشغل منصب المدعي العام في محكمة الشعب الذي طمأنها في حينه أن كل شيء سيكون على ما يرام!. لماذا اعتقل والدي ومن كان المحرّض؟ الله اعلم. قبل انتهاء السنة، عاد والدي من السماوة ثم استأنف عمله مع الجواهري كأن شيئا لم يكن. لم تتاح لي الفرصة أن أتحدث مع والدي في هذا الموضوع.
في صيف 1960 وبمنسبة الذكرى الثانية لثورة 14 تموز، أقامت نقابة الصحفيين حفلة في حدائق النقابة - على ما اعتقد، دعي اليها العديد من رجالات الثقافة والصحافة وعوائلهم. حضر هذه الحفلة العديد من المسؤولين وعلى رأسهم الزعيم عبد الكريم قاسم. في أرشيف الذاكرة تمثل هذه المناسبة ذروة الطموح الطفولي لأختي الصغيرة نيران، بنت الثلاث سنوات، حين أخذنا والدنا للتعرف على الزعيم. حينها سأل عبد الكريم أختي عن اسمها، فأجابته بدون تردد - "نيران". ابتسم عبد الكريم وربت على راسها قائلاً " أنت نور ونار، تضوين للأحرار وتشعلين الاستعمار". نيران تدعي أنها تتذكر هذه المناسبة وبقت لسنين تهددنا بأقوال الزعيم! أما الصور التي التقطناها معه فقد أحرقناها بعد الانقلاب الدموي في سنة 1963. لدينا فقط صورة واحدة تذكارية من هذه الحفلة تجلس فيها العائلة معاً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف