فضاء الرأي

العراق: في عجز السياسة وموت الكلام

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


لم تمض سوى أيام معدودات على سورة الغضب التي انتابت حيدر العبادي خلال تصريحه الصحفي الاخير واصفا سلفه المالكي بالقائد الضرورة تهكّما، حتّى أصدر مكتبه في رئاسة الوزراء توضيحا هزليا لا يمكن له أن ينطلي في محتواه على أحد.
&هكذا يمكن& التلاعب بالكلام والكلمات علانية. وهكذا يمكن أن تتحوّل اللغة السياسية الدقيقة من وسيلة للتفاهم الى أداة لسوء الفهم والتفاهم والمقاصد. السياسة علم وفنّ وقابلية وقدرة وقياس وحسابات شتّى. يبدو أنّ ساستنا مغرمين بالمعنى الأصلي لكلمة "سياسة". حيث قالوا قديما : "ساس الخيل والدواب" بمعنى قادها. هم أوفياء لثقافة القطيع وكيفية سوقها.
حتّى التراجع والإنسحاب لهما أصول وقواعد مقبولة ومعقولة . الشارع والمرجعية تطالبان بالضرب "بيد من حديد". لكنّ الحديد تحوّل في أيام الى عجين. هل هي قصة الحبيب والزبيب المعروفة للجميع؟. أستبعد ذلك. الإنقسام في حزب الدعوة واضح. الصقور والحمائم في أركان البيت الشيعي. التشدّد والإعتدال مرتبكان معا. التسويات بعيدة. الصراع الشيعي ـ الشيعي سيشتدّ في غياب الأخوة الأعداء من الساحة. النقيض بحاجة لنقيضه. وجوه جديدة وقديمة لقيادة السنّة لا بدّ لها أن تستدعى الى ساحة العمليات. المؤتمرات حول ذلك تدور من الخليج الى تانزانيا. العنوان العريض هو التقاسم من جديد أو التقسيم. الكلمات سوف لن تكون هي نفسها والمعاني كذلك. الحراك أسرع من الكلمات. تلهث وراءها. لا تستوعب وتتخبّط. الوجود مهدّد.
اللغة بيت الوجود. قالها يوما مارتن هايدجر. النطق والمنطق من جذر لغوي واحد. لكنّ هايدجر لم يكن يعرف فحول المنطقة الخضراء في بغداد. وقد لا يعرفونه. أمّا منطق ديكارت، فقد تحوّل على أيديهم الى "أنا أكذب إذن أنا موجود". ولكنهما سيضطران معا، للإعتراف بالقدرات الخارقة لجميع الساسّة العراقيين. السباق حول سرعة التقلّب والإنقلاب والشقلبة سيكون بينهم على الجائزة الاولى. ومن الصعب منافسة الخطّ الأول. ففي مقدمتهم فارس ضليع صعب المراس، يستطيع أن يخرج المفردات السردابية والأفكار السرابية من القمقم حتى على المستوى الدوّلي.
الحاجة ماسّة لقاموس جهنّم. لا صفة لهؤلاء في معاجم الدنيا. كائنات افتراضية على هيئة بشر كالبعد الرابع للكون. الزمن.& مخلوقات بلا إنتماء ولا ولاء ولا ضمير ولا ايمان. لا بالدين ولا بالمذهب ولا بالطائفة ولا بالأثنية ولا بالوطن ولا بالإنسان. هي كلّها عندهم مجرّد كلمات مجوّفة كسواها من كلمات لا معاني لها. السلطة والمال والنفوذ ستصنع لها معانيها الجديدة.
أمّا قيمتها الحقيقية فهي في العالم السفلي. عالمنا نحن البشر العاديون. البشر الفقراء الضعفاء. الفردوس محجوز لمن هم فوق البشر. أمثالهم. فيزا الجنّة تمنحها فقط السفارات الحاكمة في بغداد.
العبادي لا يمكن له أن يكون سوى نفسه. تناقضاته. وضعفه البشري. صفاته الشخصية. كثير من الصفاء وأحيانا بسذاجة. وقليل من الحزم والتصميم. ولايته تجرّ خطايا سوداء وآثام ثقيلة وخيبات أثقل. الراهن يستدعي الغضب الصادق واستعمال اسلوب الصدّمة. هي الفرصة التاريخية الأخيرة. مرحلة الضرب بيد من حديد. الإصلاح والضعف لايلتقيان.
&البديل أسوأ حاليا، كالعادة. كل بدائلنا كانت أسوأ على الدوام. سوف لن تتبدّل الكلمات بل تتبدّل الدورة المغلقة من جهة الدوران لا غير. تتبادل في مواقعها. وستكون لنا معها. نحن وكلماتنا. فرصة إعادة التعرّف على نفس الوجوه السياسية ولكن بالمقلوب. وستكون هنالك كلمات جديدة. هي مجرد كلمات كسواها من كلمات.
هل الخيار بين السيء والأسوأ هو خيارنا الأبدي؟. كل ما حولنا يشكّك في القدرة على الإصلاح والتغييّر على المدى المنظور. تجّار الخراب أقوى. العزائم لا تشتدّ بالسرعة الكافية. التظاهرات السلمية وحدها ستفتر ان استمرّت على منوالها ودون ابتكار. اليائسون كثر. تلك هي تجربتهم مع الكلمات. وتلك هي الكلمات الميّتة واليابسة التي تشبه& الكثير من الوجوه السياسية. الكلمات لها أرواح.
&ذاكرة الأجيال لا تموت الاّ حين تفنى. غير أنّ ذاكرة الإنسانية لا تفنى. قد يتلاشى العراق. والعراقيون أيضا. لكنّ أحقادكم ستبقى بينكم، طوائف وملل ونحل وعشائر وأحزاب . كم أشتاق لسماع كلماتكم ضدّ بعضكم حينها؟. هل سيكون لها من معان أكثر وضوحا؟. التقسيم سيفضحكم أيضا.
الثروة مرهونة بالتبديد. والإصلاح مرهون بالضعف والتردّد. نحن نستأنف دورة تاريخية بعجلات محلّية الصنع. لبلاد كان لها السبق الحضاري في اختراع العجلة.
&مجرّد عجلات لتدوير سياسات الآخرين، ونحن أيضا، أدواتها ووقودها. ضحاياها وعشّاقها على& كلّ الجبهات. فينا شيء من الأعداء.&
لقد هدّمنا كلّ شيء بالكلمات. لا شيء تحوّل عندنا الى سلوك. النظريات والمعتقدات والمثل العليا،على الرفوف والحيطان. والواقعية السياسية ليست مثل شعارات التعبئة. صولجان السلطة هو مراد الجميع. ومقسّم للجميع. في الطريق الى السلطة القاسمة والمقسمة، عليك بالكلمات. تزوّد بكلمات ينبغي عليها أن تتحوّل بسرعة الى معان غير معانيها. وكلمات أخرى تعني وتشير بوضوح الى بعض المعاني. ولكن لا ضمان لمعانيها في الغد. السلطة لها لغتها الخاصّة أيضا. والكرسي أعلى من القاموس. وفي انتظار الغضب المختفي والمستحي والأريحي& الذي قد يأتي ولا يأتي. سنعيش معا دورات لا نهاية لها في انقلابات الوجوه والمعاني والكلمات.

باريس&
&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تعليق
ن ف -

لا يسعني سوى أن أرفع قبعتي لأُسجّل اعجابي بما سطّره الكاتب المتمكن من أدواته، أستاذنا عبد الرحمن سليمان. مقالة، كسابقاتها، في غاية الأهمية. وتكمن أهميتها في كونها تلامس مواضع ضعفنا وتُشخّص عِلَلنا بشكل صريح وقاسٍ. تحيات طيبات له مع فائق احترامي.