فضاء الرأي

العظة النابلسية لهاملت الغفاري

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

1.
قد نتخيلُ واهمين أننا نتذكرُ شهداءنا الأطهار لنُبقيهم أحياءً بيننا، لكن الحقيقةَ أننا نتذكرهم لأن ذِكراهم هي الشيء الوحيد الذي يُبقينا نحنُ على قيدِ الحياة.. فنحن لا ننفضُ عنهم غُبارَ النسيان حين نتلو أسماءهم: بل ننفضُ عن أرواحنا نحنُ قيودًا من اليأسِ الثقيل صارتْ يومًا بعد يوم أكفانًا لنا.. نحن لا ننفضُ عنهم غبارَ النسيان حين نرفعُ صورَهم: بل ننفضُ عن قلوبنا نحنُ طبقاتٍ من الصدإ الذليل كي نسترجعُ عبر ملامحِهم الطاهرة وجهَ حلمِنا الغائب.. شهداؤنا لا يحتاجون إلينا بل نحنُ في أمسِّ الحاجة إليهم..
2.
تحت وطأةِ المرارةِ والظروفِ الغاشمة، قد تبدو لنا الحياةُ هاويةً لا مهربَ منها، هاويةً تفغرُ فمُها المسعور لتبتلعَ كلَّ الأشياءِ الجميلةِ التي عرفناها وكلَّ الأشياءِ الجليلةِ التي نحلمُ بها، هاويةً لا قرارَ لها تسحقُنا بأنيابِ ظلامِها في التذاذٍ مريض.. نعم، قد تكونُ فعلًا الحياةُ هكذا: محضَ هاويةٍ لا تعرفُ الرحمة.. لكننا هنا لنتذكرَ أن خيوطًا مِن الدمِ الطاهر تمرقُ عبر أحشاءِ الظُلمةِ بقوةِ عشقِها الصادق وتمتدُ فوق الهاويةِ؛ لتصنعَ لنا جسورًا بين غدِنا وعودتِنا.. قد يراها الآخرون خيوطًا هزيلة وواهنة لا حيلةَ لها، ويسخرون قائلين: حين تصيرُ دماءُ شهدائكم جسورًا أخبرونا لنقصفها ونُحيلها أمامكم رمادًا.. لكننا هنا لنتذكرَ أن الفئوسَ مهما كانت عاتية لا تقدر أن تذبحَ عطرَ أزهارِنا، وأن الرصاصات مهما كانت غزيرة لا تقدر أن تقتلَ أغانينا، وأن الأسلحةَ مهما بدتْ مهولةً لا تقدر أن تخدشَ جسورًا من الدمِ الطاهر؛ لأنها جسورٌ تنمو في أرواحنا جيلًا بعد جيل، جسورٌ لن نخطو عليها لنعبر؛ بل ستمنحُنا أجنحةً من نور حين نملكُ قليلًا من الإيمانِ بها..
3.
أخيرًا، شهداؤنا لا يحتاجونَ إلى ضجيجِ مدائحنا التي صارتْ أشبهَ بالقبورِ البالية، بل نحنُ في أمسِّ الحاجةِ إلى الإنصاتِ مليًّا إلى صمتِهم البليغ؛ فهو أقدسُ قصائدنا وأجملُها: مزيجٌ من حَزْمِ النارِ وخجلِ الفراشةِ ينسكبُ مطرًا على شفاهٍ ترتعشُ في منتصفِ المسافةِ بين القُبلةِ والصلاة.. حينَ تبدو ليالي الذُّلِّ لا نهايةَ لها، علينا أن نُنصتَ مليًّا إلى صمتِ شهدائنا؛ ففيهِ تهمسُ لنا عودتُنا قائلةً في ثقةٍ وحنان: أحبائي، إن فَجْرَ عِناقي لقريبٌ.. إن فجرَ عِناقي لقريبٌ.. إن فجرَ عِناقي لقريب..

*هذي السطورُ الخرساء مُهداة إلى السيدة الفاضلة مها النابلسي أخت حبيبتي الشهيدة لينا النابلسي: الفراشةُ النورانية التي مِن رفيفِ أجنحتِها، تستعيرُ قلوبُ الثائرينَ خفقاتِها.. التي لا أستحقُ النُّطقَ بحرفٍ مِن اسمِها المقدس، وإن طهَّرتُ فمي بآلافِ الجَمراتِ المُضطَرِمة.. التي كلُّ ارتعاشةٍ في سويداءِ الرُّوحِ نداءٌ لها، وكلُّ نداءٍ راجفٍ لا يجيءُ إلا ممهورًا بأصداءِ قولةِ عظيمِ المَعَرَّةِ "وأُكْبِرُ أن يُرَثِّيها لسَانِي بلَفظٍ سَالِكٍ طُرُقِ الطَّعَامِ".. والتي في بسمتِها الحانية، مَطَارِقُ مِن صدقٍ ساطعٍ تَمْحَقُ جلاميدَ اليأسِ الكالحة؛ لتُفسِحَ سبيلًا آمنًا لأحلامِ الأنقياء..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
اسلوب جميل
فول على طول -

مقال بأسلوب أدبى جميل ...يحمل كل الرقى والمعانى . تحياتى للكاتب .

فضول
لؤي حداد -

متى و أين و على يد من استشهدت لينا النابلسي ؟ أتمنى معرفة الاجابة لأن طوفان العواطف المتدفق من المقال قد أثار فضولي