فضاء الرأي

ضريبة الطيبة

تمثال ماركوس أوريليوس البرونزي في متحف كابيتوليني في روما
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يقول السياسي الناجح لذاته: لا تكن طيباً، ابتسم في العلن، واحذر من الذي تتعامل معه، فتلك ركائز التقدم. من يدرك أنه لا يملك هذه السمات، عليه ألا يدخل عالم السياسة، وإن اقتحمها فلن يحقق نتيجة، بل سيفشل. جدلية السياسة وتناقضها مع الطيبة موضوع تناوله العديد من علماء النفس، والمفكرون، وكتبت فيها المئات من المقالات وفي أوجه مختلفة.

السياسيون لا يهتمون بما يصفهم به المجتمع، ولا يريدون محبة الناس بقدر ما يهمهم كيف تتحدث الألسنة عنهم، وكيف يسيطرون على أدوات التحكم في العامة. الخبث سيماؤهم، يعيشون في عالم لا مكان فيه للطيبين، يهللون لظهور الأنبياء والمصلحين على أنه من أجل محاربة المنافقين وتبيان مناقب الطيبة، وهم خير من يدرك أن تقدمهم مبني على النفاق، وبه يحققون مطالبهم. كم نتمنى أن تمتلئ الساحة السياسية الكوردستانية بالسياسيين الكورد القوميين للتغلب على الأعداء، وخدمة المجتمع والقضية، حتى ولو بعد تعويم المصلحة الذاتية والحزب.

الممجدون في التاريخ، والذين سادوا وطغوا أو يسودون اليوم، جينة الطيبة من أضعف جيناتهم في الواقع. معظمهم منافقون، وطغاة، وخبثاء، وخونة، ومجرمون، لا قيم لهم ولا معارف أو أصدقاء. يستثنى من هذه الجدلية البعض من قادة الثورات، الذي عاشوا آلام الشعب، والأدباء والفلاسفة والفنانون المبدعون، الذين ذاقوا الويلات، وقضوا حياتهم في القهر والعوز، وتم إذلالهم من قبل الشريحة المشار إليها. أغلبهم طيبون بالفطرة. والطيبة حالة سلبية لصاحبها وإيجابية لمناوئه، خلقت مع الإنسان لإذلاله لا إكرامه وإجلاله، كما تقول الأديان.

طوال التاريخ عانى الطيبون من هذه الصفة. كثيراً ما تحولت دماؤهم إلى دموع انسابت بصمت وفي العتمة. استندوا على كبريائهم لكتم القهر أمام الأخرين. غطوا الذات المعانية باللامبالاة، لكنهم في الواقع ومع الزمن والصراع الداخلي يتحولون إلى هياكل متحركة؛ بأدمغة تلتهب كالجمرة، ومنهم المبدعون خاصة في المجالات الفكرية والعلمية. سقراط خير مثال.

لغرابة عالم السياسة، تمنيت أن أحمل سمات السياسيين، ليس لأن أروقتها وساحاتها تغرق في الرفاهية، بل لأن منصاتها سلطة وقوة، بالإمكان تسخيرها لخدمة الوطن والقضية، لذلك حاولت طوال العقدين الماضيين تنمية جينة العنف، والقسوة، والتدمير، وعدم الرحمة، على أمل أن تطغى على الطيبة المدمرة للذات. لكن للأسف، في الواقع العملي، كنت أضحل من أن أتمكن ولوج هذا العالم، والقدرة على تطبيق أول بنوده، وهو الخبث والغدر عند الضرورة. واصطدمت بنقيض المطلوب، وكانت النتيجة أن من شبه المستحيل التغيير، فجل الصفات جينات وراثية، حتى لو أن بعضها يتطور بالمران والتربية الاجتماعية أو العائلية. لكنها جينات غير منتجة.

بعكس عالم السياسة الموصدة أبوابها، عالم الطيبة بوابتها مشرعة يستغلها الخبثاء لبلوغ غاياتهم. يصف الناس الإنسان الطيب بالبسيط واللطيف (على البركة) لا يؤذي أحداً، فيُهمل، بعكس السياسي، الذي يعبث فيما لو شعر بالإهمال، فالطيبة خاصية كارثية لأصحابها ومضرة، حتى ولو كانت جينة متطورة من الله، لأنها جينة مريضة، وجدتها، ولمرات عديدة، بأنها السبب في إضعاف، بل تدمير العديد من البشر، نفسياً وأبعد، وسهلت النجاح للمنافقين بالمقابل.

تحزنني إن كانت هذه هي العدالة الإلهية أو من طفرات الطبيعة، والحزن أرهب من الموت، علما أننا لا نعلم أيهما الأكثر سعادة، بقدر ما نعلم أيهما الأكثر حظاً في النجاح.

السياسي الناجح يموت من الجبن مرات، وهي السمة التي لا يملكها الطيبون، رغم أن البسطاء يتمرغون في القهر والأسى ولا يأتيهم الموت، فالحلم الذي يستندون إليه يطيل مسيرتهم نحو النهاية المطلقة (جدلاً) حتى ولو عاشوا عمراً زمنياً أقل من السياسيين، لكنهم يموتون مرة واحدة.

لا أعلم فيما إذا كنتُ من الشريحة الطيبة النفس أم لا، وأنا هنا أتكلم باسم شريحة واسعة من الناس، لكنني أعلم أنَّ الحياة لم تكن مسرة كما يقولها السياسيون، ولا يرهبني الموت مثلهم، ولا أتكالب على الله لإبعاد العدم، وأؤمن أنَّ الهروب من الصراع مع الحياة بالطيبة جبن في الواقع. لم أشعر بالرهبة من القادم، ونادراً ما أحسست بالخوف من المفاجآت في الماضي. عرفت طبيعتي اللامبالية هذه لأنني واجهت خطر الموت مرات عدة بابتسامة وهدوء، ربما لأن قناعاتي متينة بأن الوجود كالعدم، ففي الأولى الزمن يمر ببطء، وفي الثانية يعدم الزمن الحضور بسرعته أو يزيل من بين الحضور أحدهم، ويظل الحضور في أثقال ذكرياتهم.

لا أعاني من مخلفات تقادم العمر، كالكآبة والحزن، والأمراض المزمنة، وسرعة التعب الجسدي أو وهنه، أمارس رياضة المشي ساعات، وأحيانا أتابع المسلسلات أياماً وأياماً. أقرأ لساعات أحياناً لهدف أو دونه، ولم أنقطع عن الكتابة منذ بداية السبعينيَّات من القرن الماضي، أي منذ السنوات الأولى في الجامعة. وجدت الكتابة وسيلة لتطهير النفس، وهي من بين الممارسات التي لا أود أن أحيد عنها كالرياضة، ترسخت أكثر عندما توضحت الغاية في العقدين الأخيرين.

حياة الناس مليئة بالأخطاء، لكنها تتفاقم على الطيبين، والشريحة هذه لها أوجه ومستويات عديدة. معظمهم يتعاملون مع الظروف بما تقتضي، ومع الناس بما جبلوا هم عليه. كلما برزت في الذاكرة إحدى أخطائي، أحاول أن أتذكر كلية المجتمع الطيب المعاني، رغم معرفتي أن من المفيد عملياً أن أعي أن من الفضائل التي وهبتنا إياها الطبيعة هي تناسي الماضي المؤلم، وعدم التخلي عن الطيبة للرد على كل فعل خبيث.

أتذكر كثيراً مقولة ماركوس أوريليوس "كلما أساء إليك شخص وقح، فإن عليك أن تبادر إلى سؤال نفسك: إذن أكان من الممكن ألا يكون في العالم وقحون؟ غير ممكن؛ فلا تطلب غير الممكن. فهذا الشخص مجرد واحد من الوقحين الذين لا بد من وجودهم في العالم. والأمر نفسه ينسحب على الأوغاد، والخونة، وكل صنف من الآثمين. وإدراك أن هذه الطائفة من الناس لا بد من وجودها حري أن يجعلك أكثر رفقاً بكل فرد منهم"، فتمدني ببعض الهدوء والراحة النفسية.

مع ذلك أتناسى هذا المنطق وألوم ذاتي على عدم تسخير قدراتي العقلية على معرفة ما سينتج من علاقتي مع شخصيات من هذه الشريحة التي يذكرها أوريليوس، ولربما معظم الذين يصطدمون بالحياة أو يفشلون رغم العطاء الفكري والأدبي والفني هم من حملة السمات الطيبة، تنقصهم جينات السياسيين.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
شلة فاسدة
Gevan -

اساسا الكرد لا يعملون لاجل كرد والكردستان يا سيد الكاتب اساس الكرد يعملون لصالح العشيره ولصالح الايديولوجيه شلعه اوجلان لديهم استعداد لكي ينحنوا او ينبطحوا للاتراك والاخوان الشياطين والبعثين الفاشيين من اجل لا يدعوا يدهم يدهم في يد الكرد الاخرين واما قطيع البرزاني يجلسون في حضن اردوغان ولا يتكلمون ما يقوم بها هذا الدجال التركي في عفرين من خلع الاشجار الزيتون من جذوره والتغيير الديموغرافي وقتل الكرد على الهويه والى اخره هذا هم اساس الكرد يا سيد الكاتب شلعه اوجلان مستعدون ان يتبراوا من اي صفه كرديه وكردستانيه