سرف المداد
القابلة "حواء سبت".. صيغة المجتمع السوداني في نسختها القديمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كان حقاً خليقاً بي أن أتخفف عن هذه الأعباء التي أجبرتني أن أخضع لها، كما يخضع لها جميع الناس، وأن أزور خالتنا الحبيبة "حواء سبت"، تلك المرأة التي يمكن أن تقضي الليل بأسره، وتقضي أكثر الغد، ولا تستوفي مناقبها، أو تحصي سجاياها، إمرأة عظيمة من نساء بلادي، إمرأة تحبها الأفئدة، وتخلص لها في حبها، لأنها جديرة بهذا الحب، وقمينة بهذا الإخلاص.
وحواء سبت إمرأة أرزمت على الثمانين، ولكني أشك أن ربيع شبابها قد أدبر، وروض عنفوانها الزاهر قد أفقر، فروحها العذبة، كفيلة بأن تعيد لجسدها المهدود نشاطه ونضرته ورواءه، وفي الحق لقد اعتدنا أن نرى خالتنا حواء فرحة مبهتجة، حتى وإن كانت محزونة عميقة الحزن، ولعل هذه الروح الشفيفة الجذلة، هي التي كانت تجعل النساء في مدينتي الدمازين يتهالكن عليها، ويسرفن في تملقها، حتى تتودد وترضى، لأنها محنكة ذكية، ولأنها وفقت لأشياء، لم توفق قابلة مثلها لحظها من الأجادة، أو تظفر بمثل ما ظفرت به من إعجاب الناس، فلحواء سبت فنون لم يحسنها غيرها من القابلات، وما كان في استطاعتهن أن يحسنها، لأجل هذا كانت كل إمراة أوشكت على الوضوع، تطمع فيها، وتطمئن إليها، تطمع لأن تخضع لأصابعها الرقيقة البضة، وهي تعبث في أحشائها، لتنتشل قطعة من اللحم واهية ضعيفة، تثير هذه القطعة حال وصولها إلى الدنيا، وسط أهلها وعترتها، ضروباً من المحبة، وألواناً من العاطفة الصادقة، هذا المولود، الغض البض، الذي قد يتورط فيما بعد، في الأنا والغرور، أو الغلو والاغراق في المعاصي، ومقارفة اللذة، توهي حواء ظهره الهزيل، بضربات خفيفة متتالية، حتى تعلو له صرخة طويلة ممتدة، هذه الصرخة تعتبر أول صرخة له في الوجود، وستتوالى هذه الصرخات، وتعلو نبراتها، خصوصاً إذا أمضى هذا الشقي كل عمره في السودان، فالسودان قد آل على نفسه أن ينفث حممه على كل روح فيها رمق من حياة.
لقد استأثرت حواء سبت حقاً بقلوب النساء، لأنها كانت تبث في دواخلهن الخائفة المضطربة، ضروباً من القوة والطمأنينة، فالنساء اللاتي أشفين على الولادة، يتألمن كما نعلم في صمت، ويتحملن مخاضها العسير في صبر وإذعان، الحوامل في مدينة الدمازين كنا يلتمسن مقدم حواء عليهن، وينتظرن إطلالتها في شغف بالغ، لأنها لم تكن غليظة جافية، ولأنهن يحببن منها هذا الميل القوي العنيف إلى الدعابة والمزاح، وليست النساء وحدهن من يحببن منها هذا الميل، فالصغار الذين كانت تلهب جباهم الناتئة، شمس الدمازين الحارقة، والذين سيمر عليهم وقت طويل قبلما يبلغوا سن الرشد، كانوا ينتظروا أيضاً أن يأخذوا من مزاح حواء سبت بطرف، وأذكر أنها كانت ما أن تراني وأنا ألعب أمام منزلنا بحي الري مع لداتي وأقراني، حتى تتحفني بهذه العبارات الفينانة على شاكلة "السمين، الدب، المخوذق، المعولق، المبشتن"، وهي لا تكتفي بكل هذه الباقة الرائعة من الإساءات الخفيفة الوقع على النفوس، بل تضع أطراف أصابعها، لتصافيهما وتأخيهما على خدي، ليبدأ مشوار اللطم، والقرص، والضرب عليهما في خفة وعجل، ثم تختتم كل ذلك بنصحية تسديها لي في ترف: "أخير تضعف من هسع، لو استمريت كدة زولة بتعرسك بعدين مافي"، ثم تمضي في حال سبيلها، وهي تجرجر لفائف ثوبها الأبيض الناصع، بعد أن ملأت حواف الطرق، وأقاريز الشوارع، بعبق عطرها النشوان، ما أروع ذلك الزمن، وما أجمل تلك الذكريات، فأنا إن أنسى، ْفلن أنسى، خالتنا حواء وهي تُعرِض ببدانتي الواضحة، وتعاتب والدتي الحانية رحمها الله، لأنها أفرطت في تدليلي، ولأن أمي قانعة بهذه الحياة، التي ترى فيها أن العافية تكمن في السمن والاكتظاظ، حواء سبت تخاطب والدتي قائلة: "هي يا بت شندي الواد دا أحسن تفطمي من السكريات دي، لأنها حا تأذيه"، ثم تدعوها في وضوح وجلاء، لأن تقطع عني الصلة بيني وبين البقلاوة، والباسطة، والبسبوسة، وكل ما لذ وطاب، هذه هي ألوان العواطف والشعور التي كانت سائدة في ذلك العهد، وهذه هي التسميات التي كانت تعتبر من العادات الراسخة في ذلك الزمن النبيل، ذلك الزمن الذي كان كله لين، وكله رفق، وكله دعة، فالجارة لا تنادي جارتها باسمها، بل باسم المنطقة التي تنحدر منها، يا لها من صور خلابة وجدتها في صغري وأحببتها، وفتنت بها، إلى أقصى أمد ممكن، لقد أعجبني هذا التمازج الصادق، التمازج الذي صاغنا صوغاً خاصاً، أسعى أن ألخص لك صورته، وشكله، وحواره، في تلك الحقبة، وبكل أسف أوشك هذا الترابط الوثيق أن يتداعى الآن، وأن تغيب معالمه.
إقرأ أيضاً: في مزايا الصلع ومناقب الرجل الصليع
ونحن في طور "الحداثة"، كانت تأثرنا حقاً شخصية حواء سبت سليلة منطقة بدوس الثرة الخضراء، تلك المنطقة المزدانة بالسحر والجمال، والتي لم تكن ككل مناطق صعيدنا الزاخر، تحتاج إلى حماية أو حراسة، كنت اجتهد اجتهاداً لا حد له، حتى لا تسبغ أناملها صورتها الخاصة على خدي الريان، ولعل الحقيقة التي يجب ألا أتجافى عن ذكرها، أن خالتنا حواء على عبثها، ولهوها، وشخصيتها المرحة، كانت حازمة شديدة الحزم في المواقف التي تقتضي الحزم والشدة، وكنا نهابها وهي عابثة ساخرة، ونهابها أيضاً وهي جادة، مسرفة في الجد. حواء إجمالاً، كانت تظهر لنا العطف، والنصح، والمودة، ونحن نميس في صبانا الباكر، وتغرس في جوانحنا ما يقوي من سلطان القيم، بأسلوبها الفكاهي، فهي محبة للفكاهة، مندفعة فيها، وبقي أن أقول إنَّ لخالتنا حواء شقيقة مثلها، تدعى بتول، كانت ما أن تراني حتى تغرق في الضحك، ثم تناديني بصوتها الآسر "الزوحي ازيك، كيف ناس بيتكم"، ولا أدري من هو "الزوحي" وأنا في تلك السن، ولكن قبل أن أبدأ في كتابة هذا المقال، سألت شقيقتي الكبرى من هو "الزوحي" الذي لا تمل بتول سبت بمنادتي به، فقالت لي أن "الزوحي" ممثل بدين، كان يؤدي تلك الأدوار التي تظهر نهمه، وضعف مقاومته تجاه الطعام. إذن بتول مدفوعة إلى اللهو، وإلى الفكاهة مثل أختها، لقد خلعت عليّ بتول أول لقب في حياتي، قبل أن تتوالى الألقاب، وكل هذه الألقاب لم تمضني أو تثقل عليّ، ولعل آخرها لقب الككوزاني، وهو لقب دمغني به أحد قراء موقع مشهور من المواقع السودانية الاسفيرية، التي يتهافت عليها الناس، كلما أتاحت لهم خدمات النت المتردية بذلك، هذا القارئ يزور من الحركة الإسلامية التي أنتمي إليها، وأتعصب لها، ازوراراً عظيماً.