إنَّ الحقيقة التي لا تحتاج إلى حدس أو ظن، أو إعمال خيال، أنَّ الكثير من الاختراعات الخطيرة، التي وضعت الإنسانية في ركب التطور، جاءت من رجال "جرد"، لم يخضعوا قط لسطوة "الشعر"، أو يطمعوا في نمائه، فأشد ما يمقتونه، ويزدرونه، هو كثافة "الشعر" وغزاراته، فالصلعة مستقرة عندهم، ممعنة في الاستقرار، وهي باستقراها ذاك، انحرفت عن عوامل التحول والتطور أشد الانحراف. فالشعر الذي كان يقبع في فروتها، يصور أجيالاً مختلفة من العصور والبيئات. بعض هذه العصور تحث خطاها نحو التطور وتوغل فيه، والبعض الآخر يؤثر الثبات، ويحرص عليه، والسودان مثل "شعور رأسنا"، شديد الاتصال بمعاني الثبات والاستقرار، لذا لم يشهد طوال قرنه المنصرم أي تحول أو انتقال، ولعل الأحداث وتتابع الخطوب هي التي جعلته يأنف من مواكبة الحضارة المادية الحديثة، واستعارة النظم والقيم الجمالية، التي ينظر الناس إليها في الخارج نظرة حب ورضا واكبار، فشبابه من غير شك، إذا سعوا لتتبع هذه القيم والموضات المتعابقة التي لا حصر لها، والتي تزداد انتشاراً وتغلغلاً في طبقات الفئات العمرية الأقل سناً داخل قطرنا المهترئ وخارجه، أضحوا عرضة لأصحاب الاصلاح الاجتماعي، أو عبث بهم ألسنة قاسية في عبثها، وفي الحق هذه الفئات، ترى أنَّ الحياة القديمة التي عاشها آباؤهم، قد انقضت أيامها، لأجل ذلك هم يتبرمون منها، ويثورون بها، ويخرجون عليها، وجيلنا يشهد أطوار هذا الانتقال، ويقبله على كره، ويغض منه على استحياء.
من أهم مزايا شباب اليوم، أنهم مأخوذون بحميا حياتهم الجديدة، بعد أن تداعت مثلنا العليا في حناياهم، فهم لا يعترفون بها، ولا يحرصون عليها، بل يضيقون بها أشد الضيق وأعنفه، ولعل كل فرد منا، يذكر تلك الخصومات العنيفة، التي وقعت بينه وبين ابنه، أو بينه وبين ابن أخته، في "قصة شعر" عمد إليها هذا الغر تأسياً بأخدانه، وهو يجهل أنَّ هذه "الحلاقة" من شأنها أن تعيبه، وتجعل الناس على سعتهم وضحالتهم، وعلى تنوعهم واختلافهم، يتحدثون عنه في ايجاز وإطناب، ويحوطون "قصة شعره" تلك بالرعاية والعناية، ووالده الذي لا يستطيع أن يدفع العاديات عن ولده، تطاله جلسات الغيبة التي ترتفع عنها كل رقابة، وتسقط دونها كل خشية، سيعرض الابن والده فعلاً لمحنة قاسية، وسيجد الوالد نفسه بين اثنتين، أن يدع فتاه الذي يخطر في مطارف الشباب، يفعل بشعره ما يشاء، يقصه ويرجله، بالصورة التي تروق له، ويتحمل هو الأذى في سبيل هذه الحرية التي منحها لولده، أو يكبح هذه النظم والظواهر على انتشارها وشيوعها، ويؤثر ابتعادها عن "خاصته" غير حافل برضاهم أو سخطهم.
أنا أرى من الأفضل أن يلائم بين هذا كله، ويستخلص من وأد شعر ابنه هذا الرحيق الذي تقدمه أشعة الشمس الحارقة للعقول، فهي تجلو الأفهام، وتدفع الأسقام، كما أنَّ "الصلعة" لا تحوجك إلى هذا الجدال والمراء العقيم، حتى تقنع ابنك بنجاعة الاحتفاظ بأصولك القديمة، وستدرأ عنك من دون أدنى شك مرارة الإخفاق، أو اتخاذ العلل والأسباب لنبذ كل ما هو طارف، ولدك حتماً، سيبذل من الجهود الهائلة المضنية، لقطع الصلة بينه وبين أصولك التقليدية، وسيتهافت على الجديد الذي لا تستسيغه أنت وتبرأ منه.
الحل يكمن في إقناع ولدك بمزايا وسحر "الصلعة" التي لم يسمع عنها قليلاً أو كثيراً، وقد يبلغ الغلو بالغر أقصاه، فينكر هذه المزايا، ويجحد هذا السحر. ما عليك إلا أن تتحلى بالصبر حينها، وأن تخبره بلغة حانية، وأسلوب لين، أنه ما من عالم ثبت، أو أديب يتخير اللفظ الجزل، أو كاتب محافظ يغالي في المحافظة، إلا وكان "أجهى" وصليعاً فاحش الصلع، كما أنَّ أكثر أقطار الأرض المتحضرة، لا تغالي شعوبها في العناية بشعر رؤوسهم، فقد زاروها من هم في سني، ودرسوا في جامعاتها، ونقلوا إلينا الكثير من أنبائها، فالدول الأوربية والغربية، تحتفي حقاً بالرجل "الأقرع" وتباهي به، لأنه بفكره الثاقب المتقد، فتح الأبواب على مصاريعها، حتى تتقدم البشرية وتتطور. هنا في السودان، ودعنا نواجه الحقائق كما هي، أصحاب الشعور الكثيفة المرسلة، في ثورتهم الظافرة قبل عدة أعوام، ماذا جلبوا لنا غير هذا التغيير المهلك، والعناء الذي لا يضاهيه عناء؟ لقد طالت هذه الحرب وثقلت وطأتها، وحتى نخمد ثائرتها، ونستعد لنأخذ بأسباب الحضارة من كل وجه، علينا أن نكبر "الصلعة" و"المصلعين" وأن يسعد المرء في هذه الديار بمقدار اتساع "جلحته"، ولعمري إذا تحقق لطائفة أهل "الفروة الجرداء" ما يشرئبون إليه، إذا تحقق فعلاً "للملط" هذا التغيير الذي ينفعنا وينفع الناس، لن يفسد اليأس علينا أمرنا في اتخاذ كاعب حسناء، زوجة وخليلة، نجدد بها شباباً قد أزف على الرحيل، ونحتفل بمظاهر هذه الثورة الظافرة التي أهديت إلينا.
التعليقات