"منازل عشوائية متلاصقة، ألوان وألوان تغطيها صور كبيرة للسياسيين، تكاد تخنقها"... هكذا رأيت طرابلس أول مرة زرتها، وكل السنين التي مرّت لم تستطع أن تمحي هذه الصورة المطبوعة في مخيلتي.
زرت طرابلس كثيراً بحكم التغطيات الصحافية، زرت الكثير من أحيائها ومرافقها، زرت البلدية التي احترقت، ووقتها استوقفتني ضخامتها وسلطة رئيسها.

زرت الميناء، نهر أبو علي، مكب النفايات، وكانت كلها تُخبر عن مآسي هذه المدينة وأهلها، ولكنها لم تختصرها كلها، ففي طرابلس هناك أوجاع أقسى... في طرابلس هناك عائلات تعيش بين المقابر، حرفياً.

لا أزال أذكر الرهبة في عيون رجل خمسيني وهو يخبرني عن الحياة بين المقابر، كان يتلفت يميناً ويساراً خوفاً من أن يأتي الرجل الذي استأجر منه تلك البقعة ليعيش هو وعائلته... نعم كان يدفع بدلاً مقابل العيش بين المقابر!
عندما يحضر اسم طرابلس، تحضر اشتباكات باب التبانة وجبل محسن، ويحضر الارهاب... ولكن ماذا لو كان ذلك كله نتيجة لما تقاسيه المدينة وأهلها من عوز، فالعوز هو أكثر بيئة حاضنة للخروج عن القانون.

طرابلس التي رأيتها هي المدينة الفقيرة التي تبحث عن فرصة وسط تناهش السياسة... المدينة التي نسيها أغنياؤها ولا يتذكرونها إلا في الانتخابات، ووقتها تنتشر صورهم ومعها الفتات من المال الانتخابي.

روح طرابلس التي عرفتها تشبه روح الرجل المسّن الذي يصنع الفخار على طريقها البحرية؛ أخذت السنوات من ذاكرتي اسمه، ولكني لا أزال أذكر وجهه البشوش وطيبته وشغفه بهذه الحرفة القديمة.

آخر مرة زرت طرابلس كانت ربيع 2014، وصادفت مع أول يوم لوقف اطلاق النار وانتشار الجيش اللبناني بعد أحداث دامية. كنا نصوّر وثائقياً لمحطة أجنبية، ويومها كان مقصدنا مكتبة قديمة في أحد الأحياء. وصلنا إلى الموقع المطلوب، رحت أبحث عن موقف لركن السيارة، وبعكس بيروت بسرعة وجدت موقفا، ولكنه كان في مكان مظلم تحت الأرض... لأول وهلة رحت أفكّر بكل الأخبار السيئة التي كانت تبثها المحطات التلفزيونية عن طرابلس، وأذكر وقتها كان برفقتي فريق عمل غير لبناني، صرت أقول في داخلي لما أعرّض نفسي وغرباء لهكذا خطر... دامت هذه الأفكار لبضعة دقائق استلزمها ركن السيارة في الموقف المظلم والخروج إلى الضوء حيث لاقتني وجوه بشوشة سألتها عن موقع المكتبة ودلتني، وهكذا صرنا نتنقل بين الأحياء حتى وصلنا.

هذه طرابلس التي التقيتها وجهاً لوجه، ولم تشبه طرابلس الدموية التي سمعت عنها في الأخبار والإعلام.. طرابلس اليوم استنفذت كل

قواها على الصمود وما عادت تحتمل.. من حق أهلها أن يثوروا على من اغتصبوا حقهم بالعيش الكريم لحسابات سياسية، من حقهم أن يغضبوا على من يستغلونهم... من حقهم أن يرفعوا الصوت عالياً ويقولوا الأشياء كما هي كما فعل أحد الشباب الغاضبين والذي عدّد جرائم السياسيين بحق أهل عاصمة الشمال من التجويع إلى الحرمان من التعليم وصولاً إلى الاستغلال. قال: "عمتعطونا سلاح وعمنقلكم ما بدنا نحارب"... بدل السلاح أما كان الأجدى أن يُعطى شباب طرابلس فرصة للعيش؟

لطالما كانت طرابلس ساحة للصراعات السياسية، ولا نعرف إن كان غضب شباب طرابلس أو تورط مندسين أحرق مرفقاً عاماً فيها، في ظل دولة غائبة عن مسؤولياتها، ولكن ما هو واضح أن المدينة جائعة... فلا تجلدوها!