تنظر إلى العالم فكأنك تنظر إلى مطارح من الصراع. فالإنسان الذي أوجد ليرث الأرض ويعمّرها، إنما يبنيها ويهدّمها. وفي الأثناء يمدُّ لسانه كآكل انمل ليلعق قوت كلّ فقير، ويمدّ يده كالسارق ليستبيح نضال كل جريح، ويتسلل تحت جنح الظلام ليقبض على أعناق الحرية عند كل حرّ أصيل...
يبدو الإنسان مسمّى لغير البشر، لأنَّ من مشى على قدمين، وقبل العقل بعد أن رفضته الكائنات والجبال، تناسى تمايزه، وأصر على أن يسلب من الوحش مخالبه، وأنيابه، وجنونه، وسطوته، ولكن في سياق غير سياق...
الوحش لا يستل مخالبه إلاَّ عند الجوع أو الدفاع عن النفس، لكنَّ من ادعى أنَّه البشر، يستل مخالبه للمتعة، ويقطع الأوردة للمتعة، ويروي عروقه بالدم الذي يريق للمتعة، ويقطّع، ويذبح، ويهتك، ويسلب، ويظلم، ويغتصب... وكل ذلك للمتعة...
لم تعد الكلمة التي بها وُجد الكون لها قيمة، ولم تعد خبايا السرائر وفيّة للضمير، ولم يعد الله هو القوة التي يُخشى منها... فمن أطلق على نفسه مسمّى إنسان بقي ابن الخطيئة ما قبل الأولى، الخطيئة الكبرى... الخطيئة التي لم توجد إلاَّ به ومعه ومن خلاله، لأنَّه التحم بها، فاستحالَ أن يكون قد خُلق من تراب...
بالفعل هو خلق من خطيئة لا يعرفها من هم لله مريدون، وعلى الحياة التي وهبهم إياها أمانةً حريصون، وللحق الذي أوصاهم عنه عدم الحياد منصاعون...
هو خُلق خطيئةً انبثقت منها كل الخطايا، لأنَّه لم يكرّم آدم الذي فيه...
ترى، ما انعكاس ما يراه في المرآة؟؟؟
أتصورُ مرآتُه له الجحيم أو ثوب إبليس أو العقل الرشيد؟؟؟ بالتأكيد مرآته إمّا صمّاء خرساء جدباء من كل يقين، وإمّا مرآته صرخات رياء ودَجَلٍ وكذب، وعويل حقيقة مكمَّمة الأفواه، معصوبة الأعين، ممزقة الأفئدة... مرآة لا تعرف أبدًا لها طفولة... وإلاَّ لكانت عرفت قيمة الطفولة التي تزهق أرواحها والرحيق!
ما بين طفولة وطفولة نكبات إنسانية، وصَماتُ عار!
ما بين طفولة وطفولة جبابرة تخشى من صرخة الوليد! عتاة يرتجفون من دبيب الرضيع! غيلان ترتعب من حصاة يركلها هذا الطفل في أولى خطواته!
ما بين طفولة وطفولة أبالسة تزيّت بزيّ البشر فوقفت على المنابر تحاضر في حقوق الإنسان والإنسان في أعرافها مُهان، فأين الحق والطفل هو الذي يُرمى بالنيران؟!
يُرمى جثّة باردة بين ذراعي أمه، وأمّه تحضنه وتستصرخ فيه الحياة علّها تستفيق!
بكيس أبيض يُلفُّ وهو الملاك الشهيد من قبل أن يولد حتى، لأنَّ الأعراف الإنسانية لا مكان لها حيث لا يعرف البشر أنَّهم من بني الإنسان، والشرائع تبقى هناك حبرًا على ورق؛ وهو الملاك الشهيد لا لسبب إلاَّ لأنَّه طفل الأرض التي سُلبت، والمرأة التي ترمّلت، والأم التي ثكلت، والأخت التي فَقدت!
ولأنَّه هو الطفل الذي يعرف معنى الرجولة حتى قبل بلوغ سنّ الرشد، وذراعه تعرف السيف مثل القلم، وقلبه يُتقن الرأي مثل الشجاعة، ووريده يُتقن العشق حتى الشهادة، يخشونه فيردونه!
لأنَّه هو الطفل يقصفونه، ويهدمون فوق جسده الصغير أطنانًا من الركام، ويقطعون عنه أقنية التنفس، ويحفرون في مشافيه ألف سبيل وسبيل لموت لا تضاهي بشاعته إلاَّ الصورة التي تعكسها عندما ينظرون إليها المرآُة!
لأنَّه هو الطفل يتخذونه مرمى لأحقادهم، ونيرانهم، وإجرامهم، ووحشيَّتهم، وساديَّتهم، ولا إنسانيتهم!
لأنَّه هو الفادي بطفولته الأرض والعرض، لأنَّه هو الهادي إلى الحقِّ في الأرض، لأنَّه هو اِبن الأرض التي سُلبت يخافونه فيقتلونه من دون رحمة، ويقولون عنه إنَّه ليس أهلاً للحياة، ولا بالنسبة إلى آدم، ولا بالأرض التي أنبتته وأنجبته وأعطته أولى قُبلات الحياة!
لأنَّه هو الطفل اِبن الأرض التي اغتصبت، يقولون عنه إنه «حيوان بشري»!
لأنَّه هو ابن الأرض التي اِغتصبت، يجردونه من إنسانيته، ويتفنّنون في قتله، وتهجيره، والتنكيل به!
لأنَّه ابن الأرض التي اِغتصبت يحرمونه من طفولته!
لأنَّه ابن الحق الذي اغتصب يقطعون له الوريد حتى يخرسوا الزيف الذي فيهم وواقع الحقيقة الموجع بأنَّهم المغتصِبون!
خطاياهم، أكاذيبهم، عجلهم، وصاياهم التي بقيت على الطور حبرًا على لوح من ورق تلوحه الرياح كيفما اتفق، صممهم، عميهم... كل نقيصة فيهم تطفو أمام نقاء طفولته، لأنَّه هو ثاني من حمل الصليب وسار به على درب المسيح!
لأنَّه هو الطفل الذي لم يَصْبُ إلاَّ لحقيقة الحياة، للحق، للعدل، للإنصاف؛ ولأنَّه هو الطفل الذي لم يحلم إلاَّ بطائرة من ورق، بطابة يركلها في حيّه، بصورة يعلّقها على جدار بيته، أحالوا له السماء شتاءً من نيران، وحيَّه أنهارًا من دماء، وجدران بيته سبيّة...
هو الطفل الذي لن يُهزم ولا يُهزم، لأنَّه الطفل الذي بتضحياته لاق هو بالحياة، لأنَّه هو الذي وإنْ غطّاه الثرى سيبعث في كل يوم ثالث، لأنَّه هو الذي قدّم نفسه قربانًا لفلسطين، وأضحية أبت أبدًا أنْ تُستبدلُ!
لأنَّه هو الطفل الذي لا يخشى الشهادة حتى قبل الولادة، يحشدون ضدّه الأساطيل، ويجعلونه يدفع ثمنَ فواتير الآخرين الذين ليسوا أهله، ويجعلونه يدفع ثمن خطايا لا يعرفها، خطايا لم يقترفها، خطايا لم يقربها منذ مئات الأجيال ولم يألَفْها!
لأجل كلّ ذلك يتخذونه عدوًا، لأنَّه بكل ما فيه لا يسمح للحقائق أنْ تُطمر، أو تخرس، أو تُكمّ! فكيف لهم إذًا أنْ يُخفوا لهم الإثم إذا لم يُقتل؟؟؟
يجعلونه الجدي الصغير وهم الذئب الذي يقتله بادّعاء زائف وتهمة باطلة، متناسين أنَّ «حجة الأقوى» لا تكون صالحة إلاَّ في الأقاصيص... أمَّا خارج تلك المؤلَّفات فالصلاح هو دومًا للحق ولو بعد مئة عام، والنصر هو لهذا الطفل اِبن الأرض التي أنجبته على ضريحها ضياءً سنا سما شهيدًا!
لأنه هو الطفل الشهيد، بأنامله الصغيرة وساعده الرقيق، سيرسم هو الفجر الساطع والشرق الجديد الذي هو يريد!