الصحيحة والجرباء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
هناك بيت قديم من الشعر يقول "لا تربط الجرباء حول صحيحة... خوفاً على تلك الصحيحة تجرب"، وهو يحاكي واقعنا ويؤكده؛ فكم من صديق سيء كان سبباً في انحراف صديقه الطيب وضياعه، وكم من امرأة شريفة وعطرة المسلك سقطت في فخ الرذيلة بسبب امرأة أخرى قادتها إلى هذا العالم المظلم. أما على مستوى الأوبئة والأمراض المعدية، فلا حاجة إلى ربط المصاب المعدي بالشخص المعافى؛ يكفي الرذاذ المتطاير من العطس أو تلامس المواد المستخدمة من شخص لآخر لنقل الفيروس وانتقال العدوى، وكلنا يذكر ماذا فعلت جائحة كورونا بسبب سرعة انتقال العدوى بالتلامس أو الاقتراب.
لست بصدد البحث في كيفية انتقال العدوى الجرثومية أو الفيروسية، أو التأثير الأخلاقي لأصحاب السوء، فهذه من البديهيات، لكنَّ الغريب في عالم اليوم انتقال الجهل، ولا أقول المعرفة، وتلك تنتقل بالتقارب والتواصل والتعايش مع أصحاب المعرفة أو من خلال التعلم. لكنَّ ما يحدث يكاد لا يصدق، ويسير بخلاف الطبيعة الإنسانية، حيث نرى الجهل يغزو العقول بسرعة تفوق سرعة انتقال الأوبئة، ويا ليته جهلاً عادياً، بل هو جهل مركب وممزوج بالخرافة يكتسح عقولاً كانت إلى حد بعيد صحيحة.
تزور موقعاً إلكترونياً ينشر مقالات علمية وفنية وثقافية ورياضية تغذي العقل، وتلاحظ بينها موضوعاً محشواً بالخرافات والتخلف والحقد والكراهية والانحراف، سرعان يصبح "ترند" يحظى بإقبال جماهيري كبير، وتنهال عليه التعليقات والمتابعات من كل حدب وصوب. في المقابل، فإنَّ المواضيع ذات القيمة العلمية والثقافية لا تلقى متابعاً، وكأن هناك صنف من الناس لا يتفاعل إلا مع الأفكار العقيمة، ويقبل عليها بالرغم من أنها تخلو من أي قيمة علمية أو أخلاقية وتفتقر إلى المصداقية. ليس غريباً أن ينتقل الجهل كالوباء؛ نصدق كل ما هو غريب ويقوم بعضنا بالترويج له، ويستمتع به، ويتخذه سبيلاً لمحاربة أهل الثقافة والعلم.
إقرأ أيضاً: الدور الوازن لدول الخليج في الأحداث الدولية
ثلاثة تغلب على عقول معظم الناس بلا منازع في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي والمسموع، وهي أولاً الخرافات، وثانياً أخبار المشاهير، وثالثاً المسابقات الرياضية أو الفنية وغيرها. لقد زحفت الخرافات بقوة على العقول، وأخبار الأبراج، وتوقعات قارئي الفنجان وتنبؤات السحرة، والمنقول على ألسن الناس حول الأشباح والقصص الخيالية، وخاصة قصص الرعب، أصبحت تحظى بمساحات واسعة من التغطية الإعلامية، نظراً لجاذبيتها وعدم وجود تفسير علمي لها. مثل هذه الخرافات تملك قدرة على اختراق عقول الجهلاء. أما أخبار المشاهير من رياضين وفنانين وغيرهم، فقد أصبحت الشغل الشاغل للبعض، وهناك محطات تلفزيونية تنقل أخبارهم على مدار الساعة. أما المسابقات الرياضية المستمرة والبطولات المحلية والدولية، إضافة إلى مسابقات جوائز الأوسكار ومسابقات ملكات الجمال والمهرجانات، فإنَّ متابعيها يمثلون النسبة الأكبر من بين سكان الأرض، ولا ضير أن يتابع الناس ما هو معد للتسلية أو الراحة النفسية أو للمنافسة أو لزيادة المعلومات عما يدور في عالمنا، لكن ان تتابع وتتأثر بما هو ملوث للعقول، ويشحذ العقول بالحقد والكراهية، ويثير الفتن والتعصب، فهنا الطامة الكبرى.
في الحقيقة، إنَّنا نمر بمرحلة خطيرة، من علاماتها أن تشاهد على شاشات التلفزة شخصية علمية وأكاديمية مرموقة في اختصاص علمي مرموق يجلس صاحبها على الأرض يستمع كالطفل لمشعوذ وينقاد له، أو تلاحظ كاتباً معروفاً يدبج المقالات للدفاع عن دجال أو يكتب لصالح جهة مارقة موغلة بدماء الأبرياء، أو صحفياً أو سياسياً يعتبر الخيانة مبدأ وعقيدة؛ هذا النوع من الانحراف لم يعد يمثل حالات نادرة، بل أصبح شائعاً يتقبله الناس وتستمتع به العقول الملوثة، خاصة إذا كان وراءه رمز ديني كبير أو شخصية ذات وجاهة اجتماعية، فهنا تصبح الأمور شذوذاً مقدساً لا عادياً.
إقرأ أيضاً: روسيا ستخسر الحرب مع الغرب
أقولها وهذه تجربتي وتجربة كل العقلاء في التاريخ، مهما كثر أتباع هذه الممارسات الخاطئة، فبالنهاية سيكون هؤلاء الأتباع الواهمين من الخاسرين النادمين، هكذا علمتنا الحياة، لأن الحياة لها قوانينها ولها موازينها، منها أنها لا تسمح للخطأ أن يستمر للأبد، ولو كان غير ذلك لما استمرت الحياة أو تطورت!