كشف أسرار الحكم في العالم العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لماذا تعيش الملكيات في العالم العربي استقراراً مستداماً بينما تتعثر أو تسقط الجمهوريات في أي لحظة وحين؟
لطالما حير هذا السؤال المحللين السياسيين والإستراتيجيين وخبراء المستقبليات، وخاصة مع استمرار الملكيات العربية في التطور الاقتصادي والنمو الاجتماعي، بينما مكثت الأنظمة الجمهورية تتصارع مع معضلة الاضطرابات وعدم الاستقرار.
ولفهم هذا الاختلاف، علينا أن نتعمق أكثر في الفوارق الدقيقة التاريخية والثقافية والنظامية التي تميز نماذج الحكم هذه في السياق العربي.
يضم العالم العربي 22 دولة موزعة بين قارتي آسيا وأفريقيا، تتمسك ثمانية منها بأنظمة ملكية وهي المملكة العربية السعودية، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والكويت، وعمان، والأردن، والمغرب، فيما تخضع البلدان المتبقية ظاهرياً لنظام حكم جمهوري. والتمييز بين هذه الأنظمة ليس تقنياً فحسب، بل إنه متأصل بعمق في بنياتها وإرثها التاريخي.
في الملكيات، يخدم القائد - سواء أكان ملكاً أو سلطاناً أو أميراً &- الدولة مدى الحياة. وتتراوح سلطات الملك من الرمزية أو الصورية إلى المطلقة، وتتأثر بالتقاليد والسياقات السياسية الخاصة بكل دولة. وعلى النقيض من ذلك، تتميز الأنظمة الجمهورية بانتخابات دورية تسمح نظرياً إن لم نقل شكلياً للمواطنين باختيار قادتهم. ومع ذلك، في العديد من الجمهوريات العربية، لا يوجد هذا المبدأ إلا بالاسم، حيث يحتفظ الرؤساء العرب غالباً بالسلطة والشمولية مدى الحياة أو حتى يتم إسقاطهم بقوة الانقلاب.
يتجلى مثال صارخ على هذا الاختلاف في ثورات الربيع العربي. فقد أطاحت موجة الاحتجاجات التي بدأت في عام 2010 بأنظمة جمهورية متعددة، بينما بقيت الملكيات صامدة وسالمة إلى حد كبير.
لماذا إذن تمكنت الملكيات من الصمود في وجه أعاصير وعواصف التمرد الشعبي بينما انهار العديد من الجمهوريات؟
إنَّ جذور الاستقرار الملكي في العالم العربي تاريخية، عريقة وبنيوية متينة. منذ فجر الإسلام، كان تدبير الحكم يشبه إلى حد بعيد الحكم الملكي. كان الخلفاء والسلاطين والأمراء هم القادة الذين غالباً ما يمررون السلطة داخل أسرهم بالوراثة أو في حالات نادرة بالتراضي. حتى بعد ظهور الدول القومية الحديثة، استمر هذا التقليد، حيث استمدت الملكيات الشرعية من أدوارها التاريخية والدينية الهامة للغاية. على سبيل المثال، ترجع العائلات الحاكمة في الأردن والمغرب نسبها الشريف إلى بيت النبي محمد، الأمر الذي يساهم في تعزيز سلطتها الرمزية والروحية.
إنَّ هذه الاستمرارية التاريخية العميقة الجذور تتناقض بشكل حاد مع أصول الجمهوريات العربية. فقد تأسَّس أغلب هذه الجمهوريات من خلال انقلابات عسكرية ماكرة، كانت تحدث عنيفة ومفاجئة في كثير من الأحيان. وقد شكلت هذه البداية المضطربة سابقة لعدم الاستقرار. فالزعماء الذين وصلوا إلى السلطة بالقوة غالباً ما تمسكوا بها من خلال وسائل وآليات استبدادية وغير دستورية، الأمر الذي أدى إلى تعزيز البيئات والأجواء السياسية المسورة بالقمع والقهر والرقابة والتجسس الفائق.
إن أحد أهم الفوارق بين الملكيات والجمهوريات في العالم العربي هو منهجها في الحكم. فقد ظلت الملكيات تميل إلى إعطاء الأولوية للاستقرار والإصلاحات التدريجية والمرحلية. وقد كان هذا المنهج واضحاً خلال الربيع العربي عندما باشرت الملكيات تغييرات دستورية وسياسية واقتصادية لاسترضاء مطالب الجماهير الشعبية. على سبيل المثال، قدمت المملكة العربية السعودية إصلاحات اقتصادية في إطار مبادرة رؤية 2030، في حين تبنى المغرب دستوراً جديداً منح المزيد من الصلاحيات للبرلمان ورئيس الحكومة.
بينما غالباً ما استجابت الأنظمة الجمهورية للمعارضة بالقمع الوحشي الشرس. وقد أدى استخدام العنف خلال الربيع العربي في دول مثل سوريا وتونس وليبيا واليمن إلى تأجيج الصراعات، بل إلى حروب أهلية حارقة وطاحنة. ويؤكد هذا الاختلاف الصارخ في إدارة الأزمات على نجاعة أداء الملكيات بشكل أفضل في الحفاظ على النظام والسلم الداخلي.
تلعب العوامل الاقتصادية أيضاً دوراً هاماً في نجاح الملكيات العربية. فقد استفادت الملكيات الخليجية، على وجه الخصوص، من كرم مواردها الطبيعية الهائلة من النفط والغاز لبناء اقتصادات قوية وتوفير برامج رعاية اجتماعية سخية. إن هذه الثروة قد سمحت لها بالحفاظ على التعاقدات الاجتماعية مع مواطنيها، وضمان الولاء والحد من احتمالات المعارضة على نطاق واسع.
قد يزعم المنتقدون أن هذا الرخاء والرفاهية ليس سوى توظيفاً للثروات الطبيعية وخصوصاً النفطية. ومع ذلك، فإن الملكيات غير النفطية مثل الأردن والمغرب تتفوق أيضاً على العديد من الجمهوريات العربية في المؤشرات الرئيسية للتنمية وجودة الحياة. وهذا يشير إلى أن ممارسات الاستقرار والحكم، وليس ثروة الموارد وحدها، هي عوامل حاسمة لتحقيق التقدم.
على النقيض من ذلك، تعاني العديد من الجمهوريات العربية من سوء الإدارة الاقتصادية والفساد، حيث غالباً ما يعطي الرؤساء وحاشيتهم الأولوية للإثراء الشخصي وتوطيد السلطة والتسلط على التنمية الوطنية. إن هذا الخلل يغذي الإحباط الشعبي العام ويؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار.
إن هذا الارتباط يعزز الشعور بالمسؤولية المتبادلة بين الملوك ومواطنيهم. ومن المتوقع أن يضمن رفاهة شعوبهم، وهو الواجب الذي تبناه العديد من الملوك من خلال الاستثمارات في التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية والاستثمارات في الطاقات البديلة. وعلى النقيض من ذلك، تفتقر الجمهوريات العربية غالباً إلى هذه الصلة الرمزية، مما يجعل من الصعب على القادة أن يزرعوا نفس المستوى من الولاء والثقة.
كما تشير الأدلة إلى أن الملكيات، بالرغم من أنها ليست محصنة ضد بعض الممارسات الاستبدادية، فهي على كل حال تبقى أقل قمعاً بكثير مقارنة مع الأنظمة الجمهورية. خلال الربيع العربي، استخدمت الملكيات استجابات مدروسة لمعالجة المظالم العامة، في حين لجأت الأنظمة الجمهورية غالباً إلى العنف الجماعي.
إنَّ النجاح الدائم للأنظمة الملكية العربية مقارنة بالجمهوريات ليس مصادفة، بل هو متجذر في الاستمرارية التاريخية، وممارسات الحكم، والإدارة الاقتصادية المسؤولة. لقد أظهر الحكم الملكي قدرة ملحوظة على التوافق مع الديناميكيات الثقافية والسياسية الفريدة للعالم العربي. بالنسبة للجمهوريات، فإنَّ الطريق إلى الاستقرار يتطلب تبني مبادئ المساءلة والتناوب الديمقراطي على كرسي الرئاسة، التي أهملتها العديد منها منذ فترة طويلة.