فضاء الرأي

رسالة من ابنٍ إلى أبيه الشهيد:

كردستان بين دم الشهداء ويد الفاسدين

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يا أبي الشهيد، يا من روَّيت تراب كردستان بدمك الطاهر، يا من تركت جسدك على الأرض لتحيا أرواحنا بحرية وكرامة، أكتب إليك اليوم والدموع تحرق وجهي؛ لأن ما آلَتْ إليه أوضاعنا لم يكن في الحسبان. لم يكن في أحلامك أن نجد كردستان صحراءً من الظلم وفجوةً من الفساد.

يا أبي، لقد صار الوطن الذي حلمت به مهربًا للفساد والواسطة؛ صار مكانًا تُشترى فيه الوظائف بعشرات الرواتب، قبل أن يُسمح لشابٍ مؤمنٍ بالوطن أن يخطو خطوة واحدة نحو مستقبلٍ كريم. لقد أصبح الرجل المناسب في المكان الخاطئ، والموظف الأمين في المنافي، والذين يرفعون صوركم اليوم صاروا تجار مصالح يضحكون على دمائكم ويبيعون الوطن في صفقات سرية.

الكهرباء التي كنا نحلم بها أصبحت رفاهية باهظة، والمستشفيات صارت أسواقًا للأدوية باهظة الثمن، والمواطن يموت في الطوابير لا دواء له ولا أمل. والضرائب تزداد يومًا بعد يوم، حتى كاميرات المراقبة التي نُصبت على الطرق صارت أداة جباية جديدة تحصد قوت الناس. وأما النفط الذي قاتلت من أجله فقد صار ملكًا لفئةٍ قليلة لا تعرف معنى التضحية؛ يبيعه بعضهم لأنفسهم ولأصدقائهم وكأنه ميراثٌ شخصي، بينما الشعب يموت من الفقر والجوع.

يا أبي، الذين يحملون شهادات جامعية يجلسون في بيوتهم أو يقضون النهار في المقاهي بلا عمل، والعدالة الاجتماعية ماتت، وكل شيء صار غاليًا؛ حتى المحروقات التي استشهدتم من أجلها أصبحت حلمًا بعيد المنال. والهجرة تتزايد كل يوم لأن الوطن أصبح سجناً بلا أبواب مفتوحة.

أستمع، يا أبي؟ هل تسمع صراخ روحك بين هذه الجدران؟ هل تشعر بالخذلان الذي ملأ صدورنا؟ دماؤكم كانت شعلة أمل، لكنها اليوم تذوب في وحل الظلم والفساد. أكتب إليك لأقول لك إن حلمكم صار تحت أنياب الجشع والسرقة؛ لا شيء يبقى سوى الذكريات والدموع.

وفجأة شعرت أن القبر ينفّس، وقال صوتك يا أبي من الأعماق: &"يا بني، لم أمت لأرى هذا اليوم، لم أستشهد لكي تتحول دماؤنا إلى وسيلة لإغناء القلة، ولم أضحِ بحياتي كي يغرق الوطن في المحسوبية والفساد. كنت أظن كردستان ستكون منارة للحرية والكرامة، فإذا بها تغرق في ظلام اليأس والخيانة.&" قل لمن سرق الوطن إننا ما زلنا نحرس قبورنا. وقل للشرفاء الذين ما زالوا يؤمنون بالخير: لا تيأسوا؛ فالضمير حي، وما دام هناك من يكتب بالكلمة الصادقة فإن الأمل لم يمت.

أعدك يا أبي أن أظل صادقًا وأقول الحقيقة مهما كلفني الثمن. أعدك أن لا أبيع الحلم الذي استشهدت من أجله. غادرت المقبرة وقلبي مثقل بالهمّ، والدموع تملأ عيني، إلا أنني حملت معي رسالة شمسية لكل من يريد أن يعرف الحقائق، ألا وهي أن الوطن لا يُبنى بالفساد، وأن الشهداء ما زالوا يراقبون ما يُفعل بدمائهم.

ما يجري في كردستان اليوم يتجاوز حدود الاحتمال؛ لقد أصبح الفساد علنيًا، وتحول النظام الإداري إلى شبكة مصالح شخصية تخنق المواطن العادي. البطالة والفقر وغلاء الأسعار وانعدام الخدمات ليست أزمات اقتصادية فحسب، بل نذر لانهيار أخلاقي وسياسي خطير. لذا أوجه ندائي الصريح إلى القيادات السياسية في أربيل والسليمانية: كفى صمتًا على الانهيار، كفى لعبًا بدماء التضحيات. آن الأوان لمحاسبة الفاسدين، واستعادة العدالة، وردّ الحقوق المسلوبة، وإعادة ثقة الشعب المفقودة. كردستان اليوم بحاجة إلى رجال دولة لا تجار وطن، إلى ضمائر نظيفة لا حسابات مصرفية متخمة. إن كنتم تؤمنون بدماء الشهداء فابدؤوا بإصلاح ما دمّره الفساد قبل أن يغادر الوطن أبناؤه وتبكي السماء على دمائهم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف