فضاء الرأي

العنف الجنسي واستغلال حاجة النساء في غزة

فلسطينية تبكي زوجها القتيل
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في ظل الحرب المستمرة وتفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، تتكشف ظاهرة مؤلمة وهي إجبار بعض النساء على تقديم خدمات جنسية مقابل الحصول على غذاء أو دواء أو عمل أو مأوى. وجاءت هذه الشهادات من نساء صرن مضطرات للاختيار بين كرامتهن وحياة أسرهن، لتسلط الضوء على شكل جديد من أشكال العنف الذي يستغل هشاشة المدنيين في واحدة من أفقر مناطق العالم.

الشهادات التي وثقتها وكالات أنباء دولية ومنظمات إنسانية تصف تقاضي مبادلات جنسية أثناء توزيع مساعدات أو أثناء عمليات التوظيف المؤقتة، وأحيانًا تحت غطاء تسجيل المستفيدين من المساعدات أو توفير فرص عمل مؤقتة في مؤسسات إغاثية أو عبر ممثلين محليين ومتعاقدين خاصين. وهذه الممارسات لا تندرج فقط تحت &"إساءة تصرف فردية&"، بل تبدو جزءًا من مشهد استغلال أوسع يتغذى على انعدام الأمن الغذائي وفقدان سبل العيش.

وكشفت بعض الأرقام خلال العام الماضي أنه جرى تسجيل 18 ادعاءً متعلقاً بالاعتداء أو الاستغلال الجنسي المرتبط بتلقي المساعدات في غزة، وجميع هذه الادعاءات ارتبطت بمسؤولين كبار وصغار مقربين من حركة حماس، لكنها لا تكشف تفاصيل الحالات، ولا تعكس هذه الأرقام الحجم الكامل للمشكلة، بل ترسم صورة مقلقة لحجم الانتهاكات المحتملة في مواقع تتوفر فيها الاحتياجات الأساسية.

ومن بين ما رواه ناجون وناجيات، قصص عن وعود بالغذاء أو الرواتب أو توظيف مؤقت مقابل &"تقديم خدمات جنسية&"، وقصص أخرى عن ممارسات تخلّف أثرًا اجتماعيًا طويل الأمد مثل الحمل غير المرغوب فيه أو الطرد الاجتماعي من العائلة. وهذه التداعيات لا تقتصر على الضحية نفسها، بل تمتد لتؤثر على شبكات الدعم الأسرية والمجتمعية، فتحرم الأسرة بأكملها من موارد حيوية وتزيد من هشاشتها.

ويواجه الناجون عقبات متعددة في الإبلاغ، كالخوف من الانتقام، والوصمة الاجتماعية، وغياب مخارج آمنة للإبلاغ، واعتماد الكثيرين على نفس المصادر المانحة للبقاء على قيد الحياة. فتقارير الميدان تشير إلى أن إجراءات الشكاوى التقليدية لا تمنح الثقة الكافية للنساء، إذ يشعرن أن النظام الرسمي قد لا يحميهن أو قد يؤدي إلى عزلتهن اجتماعياً، وهذا الواقع يجعل العدد المسجل أقل بكثير من العدد الحقيقي للحالات.

ربما الانتهاكات المرتبطة بالمساعدات لا تحدث بمعزل عن سياق أوسع للعنف الجنسي في النزاع، فهناك تقارير مستقلة أممية ومنظمات حقوقية وثّقت أصلاً ممارسات عنف جنسي واسع طالت نساءً وأطفالاً خلال فترات الاقتتال، بما في ذلك حالات تحرش واغتصاب وإساءة في أماكن الاحتجاز والعمليات الميدانية والطريق إلى الحصول على الخدمات الصحية. لذلك فإن ظاهرة &"صفقة البقاء&" ليست سوى جانب من منظومة انتهاكات جنسية أوسع في سياق الحرب.

أما المنظمات الإنسانية التي تعمل في غزة، فتعلن مبدأ &"صفر تسامح&" مع الاستغلال الجنسي وإساءة المعاملة، وتضع بروتوكولات للتعامل مع الشكاوى وحماية الضحايا، لكن هذه السياسات تواجه تحديات عملية كنظم الإبلاغ التي قد تكون معطلة أو غير معروفة للمتضررين، والوصول الآمن للمناطق الأكثر تضرراً قد يقيد قدرة الجهات الرقابية على إجراء تحقيقات مستقلة وفعالة، وكذلك الاعتماد على شركاء محليين أو متعاقدين خارجيين لوجستياً يعقد رقابة السلوك ويزيد من مخاطر الإفلات من العقاب.

وفي الجانب الاجتماعي والثقافي، تحمل النساء تركة إضافية وهي الاعتراف بالاعتداء الجنسي الذي غالبًا ما يؤدي إلى وصمة منتشرة، وبالتالي كثيرات يلتزمن الصمت لحماية أسرهن أو لتجنّب العار. وهذا الصمت يسهل استمرار المعتدين ويمتد أثره إلى حرمان الضحايا من خدمات الدعم النفسي والقانوني، ويمنع المجتمع الإنساني من الحصول على صورة دقيقة لحجم الانتهاكات واتخاذ خطوات علاجية شاملة.

ربما يكون المطلوب الآن هو فصل ألم الضحايا عن أي سجالات سياسية أو إعلامية، فالحديث عن حالات استغلال جنسي في ظروف إنسانية طارئة هو بالأساس مطلب حماية وكرامة، ولا يصب في مصلحة أي طرف إلا إذا تحول إلى أداة إنصاف للمعنفات، لأن أي محاولة لتسييس الشهادات أو تخفيفها ستعني مزيدًا من الصمت والزيادة في الإفلات من العقاب. فالمجتمعات الإنسانية والمنظمات الإغاثية مطالبة بإعطاء أولوية لحماية الضحايا بغض النظر عن الخلفيات السياسية للمعتدين المزعومين.

ومن الناحية العملية، تحتاج الاستجابة إلى ثلاثية متكاملة، وهي آليات إبلاغ سرية وآمنة ومدعومة بخطوط طوارئ مستقلة يثق بها المتضررون، ثم آليات تحقيق مستقلة ومحايدة تحسم الادعاءات بعيدًا عن تأثيرات الضغط المحلي أو السياسي، وثالثًا وأخيرا خدمات شاملة للناجيات (طبية، نفسية، قانونية، ومادية) تتيح لهن استعادة الاستقلال والكرامة. قدون هذه العوامل، يظل الحديث نظريًا ولن يترجم إلى إنقاذ فعلي لحياة الناس وحقوقهم.

كما أن من المهم فرض عقوبات واضحة وفورية على كل من تثبت إدانته مع الإبقاء على مسار دعم آمن للمتضررين، لأن حرمان السكان من المساعدات لا يُعد حلًا، بل يزيد من استغلالهم. فالرقابة المالية والإجرائية يجب أن تصاحبها آليات حماية اجتماعية تمنع تجريد المرأة من البدائل الاقتصادية كوسيلة ضغط.

في ختام الصورة المؤلمة، تبقى الأسئلة: كيف تحمي المنظومة الدولية نساءً يواجهن خيار الخضوع أو الجوع؟ كيف تُصاغ آليات تحقق تُعيد الثقة إلى ضحايا لا يملكن إلا أصواتًا خافتة؟ والإجابة العملية تحتاج إلى إرادة سياسية وموارد مخصصة وبرامج حماية مُدرجة كجزء لا يتجزأ من أي خطة إغاثة، لأن المساعدات بلا حماية قد تتحول من حياة منقذة إلى أداة للانتهاك.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف