ديمقراطيةٌ مُهندَّسة: العراق على مفترق طرق الاستقلال والتبعية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
منذ تشكيل النظام السياسي الجديد في العراق، عُلّقت على الانتخابات آمالٌ واسعة بأن تكون الجسر الذي يعبر به الشعب نحو الديمقراطية الحقيقية وسيادة الإرادة الوطنية. غير أنّ هذه الآمال سرعان ما تكسّرت على صخرة واقعٍ مُغاير؛ واقعٌ ازدادت فيه قبضة التدخلات الخارجية، وتحوّلت معه الانتخابات، التي يفترض أن تكون عنوانًا للحرية السياسية، إلى منصةٍ مكشوفة للهندسة المسبقة التي تُنفذها طهران عبر أذرعها الأمنية والعسكرية.
لقد باتت العملية الانتخابية، بدل أن تكون مرآة لخيارات العراقيين، أداةً في يد الحرس الثوري وميليشياته لتأمين استمرار الهيمنة الإيرانية، بحيث يصبح أي تحليل لا يتناول هذا العامل المركزي، تحليلاً مبتورًا لا يلامس جوهر الأزمة.
هندسة الانتخابات: أداة طهران لمصادرة السيادة
تتجلى المعضلة السياسية في العراق في صراعٍ صريح بين إرادة شعبٍ يتطلّع إلى الاستقلال وبناء دولة القانون، وبين أقليةٍ تدين بولائها الأعمى لولاية الفقيه وتسعى إلى إدامة الفساد وإعادة إنتاج التبعية.
الميليشيات الموالية لطهران، ومعها بعض القوى السياسية، نجحت في تحويل الانتخابات إلى مجرد واجهةٍ لمنح الشرعية لسلاحها المنفلت ونفوذها الآخذ في الاتساع. فهي لا تجد في صناديق الاقتراع سوى وسيلةٍ لضمان استمرار إمبراطوريتها الموازية، مستخدمةً في ذلك المال السياسي، والترهيب المسلح، والتزوير، والتلاعب بنتائج الفرز، إضافة إلى إرهابٍ ممنهج استهدف الناشطين والصحفيين والفاعلين الوطنيين.
وما يحدث يوم الاقتراع ليس سوى الحلقة الأخيرة في سلسلةٍ طويلة من عمليات الضبط الخفية التي يقودها فيلق القدس. فبدءًا من دعم مالي واسع للمرشحين التابعين، إلى حملات إعلامية منظّمة لتشويه الخصوم الوطنيين، وصولًا إلى الاغتيالات وتكميم الأصوات الحرة؛ كلها عناصر في استراتيجية متكاملة تهدف إلى إحكام القبضة على القرار السياسي والاقتصادي. وقد أسهمت السيطرة على الوزارات المفصلية والمؤسسات الاقتصادية في خلق شبكة فساد هائلة تُنهب من خلالها ثروات العراق لصالح منظومة الحرب الإيرانية، وتُشترى الولاءات لضمان ديمومة النفوذ.
بهذا المعنى، تحوّلت الديمقراطية في العراق إلى قشرة شكلية تُخفي واقع "احتلال ناعم" ذو طابع مافياوي، يُفرغ السيادة من مضمونها، ويُبقي الدولة أسيرةً لإرادةٍ خارج حدودها.
الإرادة الوطنية في مواجهة النفوذ المشؤوم
إزاء هذا المشهد القاتم، لم يصمت الشعب العراقي. فقد عبّر بوضوح، وبأشكال مختلفة، عن رفضه القاطع للهيمنة الإيرانية. فالمقاطعة الواسعة للانتخابات في دورات متتالية، والهتافات المدوية في انتفاضات تشرين وغيرها، كانت بمثابة استفتاء شعبي صريح على رغبة العراقيين في استعادة قرارهم الوطني.
لقد أدرك العراقيون، ولا سيما الشباب منهم، أن أصل الخراب الذي يمزق بلادهم لا ينطلق من الداخل فحسب، بل تمتد جذوره إلى سياسة تصدير الأزمات والإرهاب التي ينتهجها النظام الإيراني لفرض نفوذه الإقليمي. ولهذا بات الوعي الشعبي هو رأس مال العراق الحقيقي، وهو الخطر الأكبر على النظام الإيراني الذي يدرك أنّ بقاءه يتطلب استمرار الفوضى في جواره.
وعليه، فإن الخروج من الدائرة المغلقة للانتخابات الموجّهة لا يمرّ عبر إجراءات شكلية، بل عبر قطع اليد الإيرانية التي تعبث بالمشهد السياسي منذ عقدين. وهو ما يرتبط بطبيعة التطورات داخل إيران نفسها؛ فكما تؤكد قوى المعارضة الإيرانية، فإن سقوط نظام ولاية الفقيه لا يفتح باب الحرية للشعب الإيراني فقط، بل هو مفتاحُ الاستقرار لكل المنطقة، من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن.
إن قيام إيران ديمقراطية وغير نووية يعني عودة العلاقات الطبيعية بين البلدين الجارين، على أساس الاحترام المتبادل والشراكة، لا على أساس الميليشيات والولاءات العابرة للحدود.
مسؤولية المجتمع الدولي وآفاق المستقبل
أمام هذه الحقائق، يتحمل المجتمع الدولي، والقوى الديمقراطية تحديدًا، مسؤولية تاريخية. فبدلًا من منح الشرعية لانتخابات تُجرى تحت ظلال البنادق ونفوذ الميليشيات، ينبغي دعم تطلعات العراقيين نحو دولةٍ ذات سيادة كاملة. ويتطلب ذلك فرض عقوبات على قادة الميليشيات، وكشف شبكاتهم المالية، ومنع توظيف الثروة العراقية لخدمة المشروع الإيراني.
إنَّ الاعتراف بأن الديمقراطية ستبقى هشّة في بغداد ما دامت طهران تُمسك بخيوط اللعبة، أصبح ضرورة استراتيجية لا يمكن تجاهلها. فمستقبل العراق يُصنع اليوم على أيدي شبابه، أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة في ساحات الاحتجاج، وأثبتوا أن إرادة التحرر أقوى من كل المؤامرات.
وفي نهاية المطاف، ستظل الحقيقة ثابتة: إرادة شعبٍ يسعى للحرية لا يمكن أن تُهزَم. وما إن انطلقت شرارةُ الاحتجاج الغاضب، حتى بدأت &- بتراكم الوعي والتضحيات &- تتحوّل إلى مشروعٍ وطنيٍّ ناضجٍ يعيد للعراق هيبته، ويسترجع له قراره الحر، ويطوي صفحة التبعية المظلمة إلى غير رجعة.