فضاء الرأي

كوتا الهوية المفقودة وتمدد الوهم القومي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

يبدو أن العراق "ولله الحمد" يسير بخطى ثابتة نحو "لعبة الديمقراطية"، حيث إن موسم الانتخابات فيه لا يكتمل إلا بخلطة سحرية من الدهشة والسخرية، وشيء من الفانتازيا السياسية التي تجعل المواطن يشعر أنه يشاهد برنامج "رامز تحت الأرض" لا نشرة أخبار، وعادت معه عادة معروفة وهي الطعن بهوية أي شخص يفوز ولا يعجبك فوزه، مثلما تطعن بفاتورة كهرباء، أو بغياب الموظف، أو بنزاهة مقدم برامج.

وآخر عجائب هذا الموسم جاءت من فوز مقعد الكوتا في الكوت عبر القناة الخاسرة "الأولى" التابعة لريان الكلداني، بعد فوز المرشح الذي صوّت له الرئيس مسعود بارزاني بمقعد الكوتا في الكوت، وهو فوز طبيعي جدًا، لكن فجأة البعض شعر أن أحدًا سرق "بطاقته التموينية"، لتتحول القناة فجأة إلى مخبر جنائي للهويات، ومختبر جينات ومنصة لاتهامات لا ترى في المواطن إلا بطاقة تعريف يجب أن تفحص تحت المجهر ويجرى للمرشح تحليل DNA سياسي قبل أن تحتسب أصواته، حيث ظهر المحافظ السابق محمد جميل المياحي "جزاه الله خير الجزاء" ليخبرنا أن هناك طعونًا وشكوكًا وتساؤلات، وقليلاً من التشكيك، حول هوية الفائز.. هل هو فيلي؟ هل هو كوردي؟ هل هو فيلي وكوردي؟ هل هو فيلي بالأصالة أم مغشوش؟ كوردي بالسكن؟ كوردي فيلي بالنية؟ لا ندري بعد، فاللجنة المختصة بالتصنيف لم تصدر قرارها، فلو كان هذا المرشح علبة جبن، لكان أسهل، على الأقل الجبن عليه شعار يدل على أصل المنشأ، وكأننا صرنا في برنامج "من سيربح الهوية"، وليس في انتخابات يفترض أنها دستورية ومبنية على إرادة الناخب.

السؤال البسيط الذي يطرح هنا هو: كيف يسمح مسؤول لنفسه ومقدمة برامج بالتشكيك في هوية مواطن؟ وكأن الجنسية والانتماء أصبحا ملكًا شخصيًا لبعض الساسة والإعلاميين يعطونها لمن يشاؤون ويمنعونها عن من يشاؤون.

ثم جاء المشهد الأكثر كوميدية عندما ناقش الضيف ومضيفته "بكل جدية مصطنعة" وجود أكثر من 16 ألف منتسب من البيشمركة في إقليم كوردستان صوتوا لهذا المرشح، أي صدمة هذه، وكأن البيشمركة ليست قوة رسمية اعترف بها الدستور وقاتلت داعش عندما كان البعض يتفرج من الشباك، ونسوا أو تناسوا أن صفوف البيشمركة تضم آلاف الكورد الفيليين إلى جانب المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان والكاكائيين وغيرهم. طبعا هذا الجزء لم يعجب البعض، لأن قبول فكرة أن الكورد الفيليين في صفوف البيشمركة أيضًا قد يفسد "حبكة" الحملة الإعلامية.

ثم تأتي القفشة الأكبر التي تستحق جائزة "أفضل لقطة تهكمية لعام 2025"، فبينما كان النقاش في البرنامج مستعرا عن هذا المرشح وكأنه كائن خرافي، فجّر الضيف قنبلة يحسبها من العيار الثقيل، حين تحدث أن الرئيس مسعود بارزاني صوّت للمرشح الكوردي الفيلي، يا ساتر يا رب، رئيس يصوّت؟ ويصوّت حسب قناعته؟ ولمرشح يختاره هو؟

تخيلوا رئيس يرى الجميع إخوة ومواطني بلد واحد، ويصوّت كما يشاء ولمن يشاء، واضح أن هذه جريمة كبرى في نظر البعض، وتجاوز خطير على المنهج الجديد لهم والمتمثل في "صوّت لمن نريد، لا لمن تريد.. فصوتك ملك للدولة، والدولة ملك جماعتنا"، لتأتي بطلة المشهد الإعلامية منى سامي لتلقي السؤال الذي سيبقى علامة فارقة في تاريخ التقديم التلفزيوني في العراق، وهو: "كيف تسمحون للحزب الديمقراطي الكوردستاني أن يتمدد داخل المحافظات الشيعية؟"، وكأن الحزب الديمقراطي الكوردستاني مادة كيميائية قابلة للانفجار، أو فيروس يحتاج إلى حجر صحي، وليس حزبًا سياسيًا ينتمي إليه مكوّنات أصيلة موجودة تاريخيًا في العراق، قبل أن تخلق معظم الفضائيات التي تنظّر اليوم. فالديمقراطي الكوردستاني حزب سياسي يملك جمهوره ويمتلك بين صفوفه مواطنين من مختلف المكوّنات، وهنا يصبح "التمدد" مرعبًا، ويصبح التعايش "غزوًا"، ويصبح الوجود الكوردي "وخاصة الفيلي" في الجنوب أمرًا غير طبيعي، فيا سيدة منى، التمدد الحقيقي الوحيد الذي عليك أن تتعلميه هو تمدد الجهل السياسي وتمدد الطائفية الإعلامية، وتمدد الخطاب الذي يريد زرع الفتن.

والأطرف في اللقاء أن المياحي نفسه اعترف بأن الكورد الفيليين يتواجدون في مناطق تمتد من ديالى حتى العمارة، لكن يبدو أن المشكلة ليست بالوجود بل بالانتماء السياسي، فالمطلوب من الكوردي الفيلي أن يكون موجودًا فقط إن كان صامتًا، أما إن اختار جهة سياسية يرى أنها تمثله، فهذا "تمدد" خطير يجب إيقافه، لتبدأ صفارات الإنذار، وتفتح ملفات الهويات، ويعلن الاستنفار الإعلامي.

السؤال الأخطر الآن هو: أين هيئة الإعلام والاتصالات؟، أين الجهة التي تلاحق تغريدة عن الطقس، "محتوى" في مقطع تيك توك، لكنها لا ترى مشكلة في خطاب يمس الهوية ويهدد التعايش؟ أين الجهة التي يفترض أن تمنع التحريض وأن تحاسب من يعبث بالنسيج الاجتماعي وأن توقف من يتحدث بلغة طائفية مقيتة إلى "مسموح" و"غير مسموح"؟ فهل أن منى سامي وعرابيها "بحسب الواقع الإعلامي" خط أحمر لا يمسّ، حتى لو مسّ الوحدة الوطنية، أم أن الخط الأحمر هو قول الحقيقة فقط؟ وهل إن منى سامي مشمولة ضمن "برنامج الحماية من النقد"؟ أم تابعة لفئة "ممنوع الاقتراب والتصوير"؟

ليبقى السؤال الذي تغاضى عنه ضيف البرنامج ومضيفته عمدًا وعن سبق إصرار، السؤال الذي يخشاه البعض، وهو: هل يريد الخاسرون أن يفرضوا إرادتهم على الكورد الفيليين؟ وهل المطلوب من الكورد الفيليين أن يصوّتوا حسب "كتيّب تعليمات" يوزع قبل الانتخابات؟ أم أن المطلوب أن يبقوا خارج اللعبة السياسية، حتى يستمر البعض في التعامل معهم كمكوّن مهمش، لا كمواطنين شركاء في الوطن؟

الكورد الفيليون الذين عانوا من التهجير والظلم، ليسوا قطع غيار سياسية تُركب عند الحاجة وتُرمى عند الانتخابات، وهم ليسوا تابعين لأحد، بل هم جزء من شعب كوردستان وجزء من العراق، ولهم كامل الحق مثل أي مواطن أن ينتموا لأي جهة سياسية، ويصوّتوا لمرشح ويفوزوا بمقعد دون أن يطلبوا إذنًا من منى سامي، ولا من ريان الكلداني، ولا من أي سياسي خسر مقعدًا ويريد تعويضه بالضجيج، فكل هذه الجلبة وكل هذه الضوضاء وكل هذا التهويل بسبب مرشح كوردي فيلي حصل على تأييد الرئيس بارزاني، ومع ذلك ارتفع الضغط وانخفض السكر، وانقلبت الطاولات، حيث أقلق ذلك محافظًا سابقًا، وأزعج قناة كاملة، وهزّ بعض أسياد "الطعن المجاني بالهوية". فما بالك لو كان للكورد الفيليين أكثر من مقعد كوتا، ربما كانوا سيطالبون بإرسال فريق دولي للتحقيق، لنعيش في دوامة من الهراء والتناقض، حيث يصرخ من خسر انتخابات ليلغى فوز غيره، ويتحول الإعلام من أداة للتوعية إلى منصة للتحريض، ويختزل الوطن إلى طوائف وعرقيات، وكأننا لم نتعلم من جراح الماضي شيئًا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف