قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سان فرانسيسكو: لا أخفي تعثري حينما أكتب مقالات تتعلق بي شخصيا، و لا أستطيع تجنب هذا في مقالي عن واحدا من اهم كتاب القرن العشرين، لانه كان أول من قرأت في فترة شبابي الاول بعد الابتعاد البطئ عن قرأة و جمع المجلات التصويرية التي كانت تصلنا من القاهرة و بيروت مثل "سوبرمان" و"بساط الريح" و "ميكي ماوس" ، "سمير" الخ،منذ 3 أسابيع و انا اسافر سواحل "كاليفورنيا" بعد وصولي "سان فرانسيسكو" مدينة أحلامي السينمائية منذ فترة شبابي الاول، المدينة في ذاكرتي ما تزال كما هي بشوارعها التي تنحني نحو السواحل و الموانئ المتعددة، ثم عرباتها التأريخية التي شاهدتها في أفلام عديدة، و أحيائها الغامضة و جسرها العملاق المئوي العمر و عبوره يدعني أشاهد تشعب سواحلها، كما أتذكره في فيلم "شرخ في المارايا"الذي أخرجه العبقري "أورسون ويلز"، و أشاهد سجن "الكتراز"العتيد و أتخيل كل من سكونه بقية حياتهم، هذا صار الان متحفا و مزارا للسواح بعد اغلاقه منذ عقود حيث بني سجن "سن كنتين" النموذجي أبعد بضعة أميال عن السجن القديم.اود نصح من يزور "سان فرانسيسكو" ان لا تفوته زيارة دار سينما "بارامونت" التي شيدتها الشركة السينمائية في ثلاثينيات القرن الماضي، ربما لا أبالغ القول انها من أجمل دور السينما في اميريكا و العالم، و تحت أشراف بلدية المدينة تخصصت في عرض الافلام الكلاسيكية، خصوصا تلك التي صورت في سان فرانسيسكو بسعر بخيس كما 5 دولارات، حرصت على مشاهدة فيلم "بوليت"1968 الذي أخرجه "بيتر ييتس" و قام ببطولته "ستيف ماكوين"، هذا الفيلم صنع كاملا في تصوير خارجي يغطي كل أحياء المدينة و يعتبر من ايقونات سينما "الاكشن" خصوصا في الملاحقة المثيرة و السريعة في شوارعها، العديد من الافلام اللاحقة قلدت أثارة السياقة في الشوارع المزدحمة منذ ذالك الحين.كل هذا كان ممتعا و جميل، و لكنني قبل سفري كانت تراودني فكرة تتبع خطوات الكاتب "جون شتاينبيك"1902-1968.بعد أيام سافرت جنوبا الى "ساليناس"مرورا بالعديد من المدن و القرى بأسمائها الاسبانية من "سان رافائيل"الى "سان خوسيه"، وهذا ليس غريبا، كلها أسماء وضعها الاسبان و المبشرين بعد أكتشاف أميريكا من قبل "كريستوفر كولومبس".كان سفرا بطيئا بتعمد لتذكر مسارح روايات الكاتب العظيم، و على مشارف مدينة "ساليناس" وجدتني محاطا بمزارع "الخس"و الغريب كان مشاهدة العشرات من المزارعين المكسيكيين في كل مزرعة في عمل يدوي شاق، حينها عشت رواية "شرق عدن"كتبها في 1952 و هي رواية فيها الكثير من الاسطورة الانجيلية، الاب الشديد التدين، و الاثنين من أولاده كما "فابيل"و "هابيل"و العلاقة المرتبكة بين الكل، مع الاشكال في مغادرة الام اطفالها لتفتح محلا للدعارة، لا أريد تلخيص الرواية فقط أريد مقارنة أحداثها في مدينة "ساليناس"قيل الحرب الاولى مع أيامنا هذه، مزارعها ما زالت كما هي، و انتاجها من "الخس" مازال كما قبل أكثر من قرن، و المزارعين هم أحفاد اؤلائك من المكسيكيين المهاجرين يعملون بدأب طول النهار لتصدير الخس لكل الولايات الاميريكية، فبين ذاكرتي في روايته و ما أراه الان لا يختلف بين ساليناس و "مونتيري" و ما بينهما من القرى حيث تدور احداث معظم رواياته، و كان ينتمي الى الطبقة الاكثر متوسطة ولكنه هاجر العائلة منذ شبابه الاول و أشتغل في العديد من المهن، و اقترب كثيرا الطبقات الفقيرة، و تعايش مع البؤساء من المهاجرين، ليبدأ كتابة قصص قصيرة في العشرينيات من عمره معظمها رفض في دوائر النشر، و ما تمكن من نشره لاقى فشلا ذريعا.و لكن اصراره و أعتقاده كاتبا جيدا لم يترك الكتابة الى حين كتابته رواية "تورتيلا فلات"1935 فيها يصف ثلاثة من متسكعي مدينة "مونتيري" أحدهم يرث صدفة شقة، وهذا يدعو اصدقائه العيش معه بعد سنوات من التشرد و النوم في الغابات المجاورة، هنا يبدأ "شتاينبيك"أسلوبا ساخرا في وصفه حياة هؤلاء المشردين في بيت له جدران و ابواب و نوافذ و يكتشفوا تعقد العيش بهذه الطريقة.هذه الرواية القصيرة اطلقته للشهرة.و لكن الرواية التي جعلت منه كاتبا عالميا كانت "عناقيد الغضب"1939 فيها حصل على جائزة"بوليتزر" و ترجمت لعدة لغات، و تحولت ذالك الفيلم الرائع الذي أخرجه "جون فورد" بنفس العنوان و بطولة "هنري فوندا"، و هنا تبدأ شهرته ككاتب "ملعون"، و اتهم بالشيوعية و في مدينته الاقطاعية "ساليناس"أحرقت كتبه من قبل رجال البنوك و الاقطاعيين، و تعرض الى حملة تشويه مخزية الى حد مقاطعة جيرانه، ثم سؤ معاملته في كل الدوائر الرسمية من البريد الى البلدية، حينها قال شتياينبيك "بدأت أشعر بالخوف حقا، و قلق انا من تهديدات الاقطاعيين و رجال البنوك، هم قاموا بحرق كتبي، و الان تشويه سمعتي"، و هذا ما حدث فعلا، حيث قام هؤلاء أحراق كتبه في الساحات العامة، و بتعمد كان يعاني العرقلة من كل الدوائر الرسمية و سؤ المعاملة.و "شريف"المدينة نصحه ان يحمل سلاحا للدفاع عن نفسه حسب قول أبنه الاكبر "توم شتاينبيك".وصلت مدبنة الكتاب الرائع، مركزها ما يزال من الطابع المعماري الاسباني، لم تتسع كثيرا منذ القرن الماضي، مبانيها ما تزال واطئة السطوح، و لكن مزارع "الخس"تضاعفت بكثير، و أخيرا وجدتني أمام بناء فخم في وسط المدينة يسمى "مركز شتاينبيك الوطني" بعنوان كبير يحمل أسم الكاتب، أعترف انني شاهدت العديد من المباني التي تخلد كتاب و فناني عدة مدن اخرى في مختلف الدول، و بصراحة لم أجد أجمل من ما شاهدته في هذا البناء من حيث التوثيق و التوزيع لكل مراحل حياة الكاتب "الملعون".في هذا المتحف الزائر ليس بحاجة لدليل او مترجم، كل أجنحته موثقة باللغتين الانكليزية و الاسبانية بجانب شاشات عديدة تعرض افلاما وثائقية، بجانب عروض رواياته التي تبنيت سينمائيا و مسرحيا، قبل دخول البناء اوقفت سيارتي امام موقف المتحف تحت اعلان 90 دقيقة مجانا و هذا أسعد صديقتي، ضحكت في داخلي واقول -من يتحمل 90 دقيقة في زيارة متحف؟- لكنني كنت مخطئ، التجول في حياة "شتاينبيك"كان أكثر من رائع، فيه فقد الزمن قبمته.في المركز اكتشفت ان أحفاد أولائك الذين نبذوا و أحرقوا كتبه في اربعينات القرن الماضي تبرعوا بأكثر من 13 مليون دولار لبنائه و اعادة الاعتبار لاحد اهم أبناء مدينتهم، و أتسأئل هل سيحدث مثل هذا يوما في بلادنا التي جادت علينا بفنانين و كتاب ليسوا أقل قامة و قيمة من الكاتب الاميركي، افتتح المركز عام 1998، تقول مديرة المتحف "كلفهم التفكير طويلا في قيمة التراث الذي تركه الكاتب الذي أعطى هذه المدينة الصغيرة شهرة عالمية"و تقول ايضا ان الوضع لم يتغير كثيرا من حيث رخص الايدي العاملة و المهاجرين المكسيكيين، عملمهم الان اختياري و اطفالهم ايضا يتمتعون بحقوق الصحة و التعليم، ليس كما عاشوا اجدادهم.كان "شتاينبيك" عنيدا و قوي الارادة في تعبيره، لم يتردد في اعلانه الكره لولاية "كاليفورنيا" كوطنه الاصلي، و مع النقاد كان في حالة حرب دائمة، خصوصا مع المحافظين منهم، ولكنه في اواخر ايامه تعرض لحملة نقد قاسية، "ربما استحقها بجدارة" من قبل الرأي العام التقدمي في الولايلت المتحدة و في العالم بسبب تأييده المطلق لصديقه الشخصي "لندن جونسون"في حربه الغير عادلة ضد "فييتنام"، انا ايضا لم أخفي احباطي من موقفه الغير مبرر والذي يكاد يلغي كل تأريخه النضالي، و وقوفه دائما صفوف الفقراء.أخيرا، و بأختصار، "شتاينبيك"جرب كل دروب الحياة كما مفكرا قلقا أزاء الحدث السياسي و الاجتماعي رغم أخطار الخطء في التقييم، فهو أستحق لقب "الشيوعي" في بلد يرى في الشيوعية سرطان يجب استئصاله، و بعد ذالك تمكن من تسميته المعادي للشيوعية بسبب من دعمه للحرب في فيتنام..قبل وفاته أراد توضيح موقفه بهذا الشأن و لكن الزمن لم يمنحه الفرصة.