"وحي السراب": مصير الشخوص في تغيير الواقع

إن قيمة الفكرة &- تخييلية كانت أو واقعية &- لا تعود إلى الكاتب / المفكّر، وإنما إلى ما يخلّفه في القارئ / السامع من حزن، أو سعادة، أو خوف، أو غضب، أو اشمئزاز، من دهشة، أو كره، أو غيرة... وغيرها من الانفعالات النفسية، تتشبّث بعقله ووجدانه، وتدفعه للمحاولة والتخلّص ممّا يعيقه وتعيق حياته، دون أن ننسى مخاطبة الفكرة للشعور والعقل معاً؛ فالفكرة وأثرها هو الأساس الأول للأدب.

"بيوتنا تحتاج للحوار لا النقاش ولا الجدال، تحتاج له كحاجة المريض للدواء، وأيّ مرض أعضل من أن تعيش في أدغال من الخلافات العائليّة؟ تبقى تضخّ الحياة الزوجيّة بالخلافات والاختلافات، كرئة الأرض التي تشبه غابات أمازون". (الصفحة: 130).

من هذه الأسطر، تبدأ رواية "وحي السراب" تستمدّ أفكارها ومحاورها، ليؤكّد كاتبها أنه حتى نحظى بحياة اجتماعية سليمة لا بدّ لنا من أن نؤمن بالعقل والحوار، ولكن بلغة هادئة وسائغة بعيدة عن الأنانية والتثاقل، التي أوقع بطله فيها، وهو ما قد تقرّب قرّاءً من الرواية، وتبعد آخرين عنها. الرواية قائمة من خلال الكثير من أفكارها المتجدّدة، على أن الشرّ سراب عندما يحطّم الآمال والأحلام، والخير سراب عندما يدنّس الإنسان ذلك الخير وقيمته ووجوده. والراحة سراب، وكلّ ما يتعلّق بحياة الإنسان يكمن خلفه وحي من السراب، كالدراسة والعلم، الحرب والسياسة والثورة، الصداقة، والزواج، المفاهيم الاجتماعية ومعتقداتها، وأعمقها الإنسانية، إذ تحاكي &- أيّ الرواية &- واقع وحقيقة مجتمعات الشرق، الغارقة في العادات والتقاليد غير المستقلّة، وتعثّرها الدائم في الخروج من قمقم اللاوعي الجمعي، فيقول الكاتب الكردي محمود محمد نعسان في إحدى فصول روايته، الصادرة عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع، عام 2021:

"وكم من أمور حياتنا سراب نلهث ورائه بغير طائل! كم من كمال نسعى له ونحن بشر ناقصون نتعامل مع ناقصين، فننتج نقصاً! كم من مال جمعناه وصرفه الورثة وكان لنا الكفن! كم من خلافات أبعدت عنّا أناس كان يمكن أن يكونوا سلالم إلى الرقي، ولكننا لحقنا السراب وافتعلنا ستّين سبباً لنبتعد عنهم!".

يستقي نعسان مادّته الحكائية من مرجعية تنهل من الواقع الاجتماعي السوري الكردي المتأزّم، الذي اتّخذ في تعقيداته وجدلياته إشكالات عدّة، فوحي السراب تلخّص جزءاً من سيرته الذاتية بصفته شابّاً عانى متطلّبات نفسية ومادّية وعاطفية، مشكّلة عوالم عمله الروائي فنّياً ولغوياً ودلالياً، إذ لا يلبث هذا الأخير بما تحويه روايته من مضامين ومشاهد غنية بالمعاني وقضايا مجتمعية شائكة، ملامسة الوجدان والمشاعر الإنسانية النابضة، التي ربما قد تفضي إلى غدٍ أفضل.

الإنسان والشيطان
يبحث الكاتب عن ذاته في أمراض المجتمع، ويرسم المجتمع من خلال ذاته، ولو كان صارماً في أحكام مطلقة غلبته في أنانيتها واستهتارها، فعندما يقول: "كلمة أحبّك تقال للزوجة، لا للصديقة"، فهو يحكم على أن هذه الكلمة لا تقال إلا للحليلة، وهذا اعتقاد غير منطقي، فتلك الكلمة حقّ لكلّ إنسان يعيش في علاقات مختلفة، إنها كلمة سردها على لسان سيبويه، بطل الرواية، محرّك الزمان والمكان والحدث والفكرة، ذاك الإنسان والشيطان معاً، المتوحّل بالواقعية والمجازية، إذ يحاور شياطين الواقع وداخله المثالي ليكون إنساناً، ويحاور الإنسان بشيطنته ليقضي على براثن ذلك الشيطان. فتى متخبّط، فوضوي، متمرّد، منفي عن ما حوله من بشر وطبيعة، رغم الاحتكاك بالناس وهمومهم وقضاياهم المصيرية.

عانى سيبويه ظروفاً اجتماعية بمشاكلها ومآسيها وآلامها، داعياً في نفسه والمحيطين به لأن يتحلّوا بالتفرّد والتميّز والاختلاف الأخلاقي والفكري وغربلة العادات والتقاليد، والتمرّد على كلّ الأذى منها، إذ تحاول هذه الشخصية الهاربة من الحرب وبرؤية عقلية ناقدة أن تكسر تابوهات اجتماعية حياتية تخصّ كلّ مجتمعات الشرق القاحل، فتقول في الصفحة الخامسة والأربعين: "لنكن نحن الذين يعيدون للتاريخ نصاعته، ولنفكّر سويّاً جماعة لا أفراداً؛ حينها ستتلاقح أفكارنا وتنتجُ ثماراً ناضجة لا عفنة، لنترك النزعة الفردانيّة والإقصائيّة ولنجتمع للعودة، ألا يكفي كلّ هذه السنوات من التشريد؟ متى سنعود؟ هل فكّرنا في أن نكون طرفاً من الحلّ؟ هل نحن راضون بواقعنا؟ فلماذا لا نعير واقعاً لسنا راضون به؟ ولماذا توقّفنا في منتصف الطريق؟ لماذا لم نكمل مشوارنا؟ علّتي أني مفعم بالرغبة، وكثيرة هي عللي".

أي مصير؟
لقد منح الروائي قيمة وأهمية لشخصيتين رئيسيتين &- سيبويه وسيماف &- وأهمل الشخصيات الثانوية بالتعبير عن أفكارها ومكنوناتها الداخلية، وإظهار تصرّفاتها وطبيعتها، وتحديد أهدافها، ولم يعطِها أيّ دور لأن تترك أثراً نفسياً أو فكرياً في مخيّلة أو ذهن القارئ، دون أن ننسى أن كلّ شخصية من شخصيات أيّ عمل روائي تحتاج إلى بعضها بعضاً؛ لأنها تعتبر أعمدة الحبكة الروائية، وعامل التحليل السيكولوجي الأساس، والعنصر الحاسم الذي من دونه لا تنبني الحكاية، لكن نعسان اعتمد في الاستنهاض بأحداث الرواية وحضورها من خلال سيبويه وسيماف، سواء اعتبرناهما كياناً وظيفياً أو خيطاً رابطاً للحكاية، أو أنهما مجرّد كائن ورقي، وإن كان حضورهما واجباً لتفعيل الحكاية وإحياء الفكرة.

يحمل سيبويه، بفعله راوٍ مؤثّر وشخصية مرجعية، دلالاته ومصيره وخصوصيته في مجتمع يفتقد إلى الخصوصية، فيه دائماً دروس وأخلاق، قد لا نجدها في المصائر الحقيقية لشخصية الكاتب، أو مَن رمزهم من واقعه بأسماء الشخصيات الأخرى، لكن في المقابل وفي عالم التحليل النفسي، الذي سعى جاهداً للإجابة عن السؤال: ما هي الشخوص في نظر الروائي؟ في حين أن السؤال الأعمق والأهمّ وربّما الوحيد الذي يمكن أن يقدّم قراءة مضيئة حول فعالية وتأثير النصّ الأدبي هو: ما هي الشخوص في نظر القارئ؟ لندرك بعد التعمّق في السؤالين، أن الشخوص التي يبنيها المؤلّف في نصّه لا تكون لها أيّ نجاعة إلا عبر القراءة؛ لأن الذات القارئة هي التي تمنح العلامة حياة وقيمة، أيّ أن الوصف الشكلي للشخوص وحتى الوصف الوظيفي لم يعد كافياً، فينتهي بنا الجواب بإضافة سؤال آخر: ما مصير الشخوص داخل القراءة؟

فشخوص الرواية هنا، بسيبويه وسيماف، في نظر مؤلّفها هي لحم ودم وعظم، بناها من ملاحظة الواقع في تجلّياته الغرائبية والعبثية، وأراد أن يتحكّم بها، وفق تلك الملاحظة وانطلاقاً من تلك التجلّيات. أما من وجهة نظر القارئ، فقليلاً جدّاً ما ينظر إلى الشخوص على أنها مخلوقات نادرة ومميّزة، فالشخوص في أيّ رواية نقرأها قد تعود بذاكرتنا إلى شخوص من روايات أخرى، أو من واقعنا وبيئتنا؛ لأنها لا تنحصر في ما تقولها لنا من خلال النصّ الروائي ودلالاته، بل تكتسب مضموناً تمثيليّاً، فنتماهى مع صور شخوص أخرى، سواء من واقعنا أو من الكتب التي قرأناها، أو الأفلام والمسلسلات والمسرحيّات التي شاهدناها.

من الواقع إلى المتخيّل
تقول الروائية القطرية، شمّة شاهين الكواري: "الرواية، هي ذاك الفنّ الجميل، الذي يحملنا من الواقع إلى المتخيّل، يختار الروائي فكرة، وينشئ شخوصه وحكاياته خدمة لهذه الفكرة، وحينما يصنع الروائي شخصياته، تتشكّل في الذهن التخيلي شخصيات إنسانية من لحم ودم، وهو يقوم على تبسيطها تارة وتضخيمها تارة أخرى، لذا من المؤكّد أن يتأثّر الكاتب بها، وأن تتأثّر هي به".

أما في حالة محمود نعسان، فهو منجذب إلى شخوص روايته وعوالمها الخاصّة، حيث من خلال سيبويه كان يسبح في فضاءاتها الواسعة، ويتحاور ويتعايش معها، يشعر بمكنوناتها تجاه المشاكل وتحدّيات الحياة، وكثيراً ما كان يتأثّر بها وينقاد إلى رغباتها ومخاوفها إلى حدّ الالتحام والتماهي، وأحياناً أخرى تراه يهرب منها، بجعلها تسلك مسالك أخرى، بتوجيهه نحو آفاق لم يكن نفسه يتوقّعها، فبعد الزواج غامر سيبويه بالدخول في معترك حياة زوجية فارغة من الأخلاق والالتزام الوجداني، خاصّة وأنه بنى الشخصية وأخضعها للنضج والالتزام والمسؤولية.

ختاماً، كان مصير شخوص &"وحي السراب&" منسجماً مع طبيعتها المرسومة لها؛ إذ أن نعسان صمّمها بعناية واقتادها في مسالك محدّدة مثلما يشتهيها، فكان سيبويه متمرّداً على الواقع ورغبته الكبيرة في تغييره بمنح صلاحيات مطلقة للخليفة الكامن فيه، أما سيماف الثائرة فكانت ثائرة على الخليفة الذي كان سيضيع في ملذّات الحياة الحديثة.

أضيف في نهاية هذه المقالة/ القراءة الأدبيّة، مقطعاً من أحد فصول الرواية:

"من غير المنطق أن يتزوّج السخيّ بالبخيلة، أو الاجتماعيّة بالانطوائيّ، وهذه الأمور لا تُكشف من أوّل جلسة ولا اثنتين ولا ثلاثة ربّما، ستبقى هناك صفات لن تكتشفها إلا بعد الزواج العمليّ، ولكن جلسات التعارف والدراسة والتحليل الشخصيّ ستقلّل نسبة الصدمة التي ستتعرّض لها، وقد تعطيك مؤشّراً للتراجع، التراجع الذي هو خير من الطلاق، لذا يجب أن تُنشر هذه الثقافة بين العامّة ويصبح عُرف وعادة؛ لأن الشرع سمح به، ولأن فيه فوائد جمّة، لا تُدرك إلا بعد الزواج والتعرّف على ما تكره من الصفات في شريكك، فإذا كنت لا تستطيع أن تشتري السمك وهو في الماء ولن نخسر فيها إلا بعض المال الذي تستطيع تعويضه، فكيف تختار شريكة لا تعرف إلا مظهرها الخارجي؟! والمظهر الخارجي لن تعرفه بعد المساحيق، فحين تقع الطامة سيندم النادم في وقت لن يعود عليه الندم إلا بالخسران والحسران، والذكيّ مَن يستفيد من تجاربه وأخطائه، لكن الأذكى مَن يستفيد من تجارب وأخطاء غيره.

الكثير من أمور حياتنا التي نمارسها باعتياد ووراثة تكون في قاع الحضيض، لو تركنا لفطرتنا وعقولنا الحكم لما عانينا في تحصيل الصحيح، لكن تلقيّناها دون تمحيص، دون عرضها على الفطرة، دون وضعها تحت مجهر العقل، هذا الأمر يشمل كلّ أمور الحياة من دين أو المال الذي نقضي حياتنا في حصده على حساب صحّتنا وقتل رغباتنا في الأشياء التي نحبّها، ومن ثم تأتي الورثة تستلذّ بتعبنا وحصاد عمرنا، هم ليسوا مذنبين، الذنب ذنبنا عندما حوّلنا المال من وسيلة إلى غاية، من حمار نركبه إلى حمار (.....)، العمل الذي نقضيه تحت رحمة الآخرين ولا نتجرّأ أن يكون نحن أصحاب العمل والإدارة ونكون محرّك إطار، الأمر الذي يجعلنا لا نتقن عملنا كما طُلب منّا، وفهمنا العامّ ونظرتنا للحياة والزواج جزء مهمّ منها، مَن هذا الذي يحاسب نفسه في العامّ مرّة، ويعيد تشكيل نظرته للأمور؟ مَن هذا الذي مستعدّ للتخلّي عن أمتن قناعاته عندما يكتشف أنه خطأ؟ إنه الإنسان فقط! ولكن ليس أيّ إنسان، بل هو إنسان الإنسان".