ثقافات

نقد أدبي

نجاة الزباير: شاعرة صوتها ينقرُ نافذة المطر

من أعمال الفنان والكاتب التشيكي فرانتيشك كوبكا
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

إيلاف من الجليل: صدر مؤخراً عن دار رنَّة للنشر والتوزيع والطباعة في جمهورية مصر العربيَّة كتاب نثري جديد ولافت للشاعرة والناقدة المغربية المرموقة نجاة الزباير بعنوان "بكَ.. اكتفيت" وهو عبارة عن رسائل عشق تقترب من مناخات العشق الصوفي وتشبه بتجلياتها بورتريهات نثريَّة مختزلة رشيقة تضيء على مقاطع شعرية مكثفة، مؤثرة وذات جمالية عالية لشعراء مغاربة وعرب بارزين منهم نزار قباني وفاروق جويدة وأحمد بلحاج آية وارهام وأنور عمران والدكتورة عائشة الخضر لونا عامر وتميم البرغوتي ومحمد بشكار ومحمود درويش وسميح القاسم وبوعلام دخيسي وكريم معتوق وكريم العراقي ويوسف الديك وماجد عبد الله وإبراهيم ناجي وكاتب هذه السطور، بالإضافة إلى شاعر أجنبي واحد وهو أمريكي يدعى إدوار إستلِن كامنغز. يقع الكتاب في نحو 88 صفحة من القطع المتوسط ويشكِّل حسب رأيي علامة فارقة في التجربة النثرية للشاعرة المغربية التي واكبت تجارب شعرية كثيرة مغربية وعربية وسلَّطت عليها ضوء النقد والتحليل والمكاشفة بلغة رومانسية حالمة تقترب كثيرا من ينابيع الشعر الرقراق النقي.

أول ما يلفت النظر في هذا السفر النثري الجميل هو جمالية عناوين أبوابه الرئيسية المكتوبة بحذق ومهارة وذائقة جمالية رفيعة، كعناوين "صوت ينقر نافذة المطر.. إلى رجل ما" و"أقداح من ماء الرحيل" و"معزوفات على أوتار الهوى.. إلى سيدة ما" و"رسائل من رماد". ولا يقلُّ جمال العناوين الفرعية عن جمال عناوين الأبواب الرئيسية. وتبدو نصوص الشاعرة نجاة الزباير النثرية في كتابها الرشيق وصغير الحجم امتداداً لقصيدتها الحالمة الرقيقة الفواحة بعطر اللحظات والأمكنة وكأنها محاورة ذكية وعميقة للنصوص الشعرية التي أوردتها للشعراء المبدعين، أو إعادةُ كتابتها على مرأى الأسطورة وفي ظلِّ توهجِ النوستالجيا. كأنها تتقرى قصائدها المختارة بشغف من يتقرى عبق المكان، ومن يبحث عن فتات الضوء في جدار الزمن. عبر رسائل "بكَ.. اكتفيت" حيث نجد اللغة الشعرية الإيمائية الطافحة برماد الرغبة وقد اختمرت، ونلمس معانقة روحية عالية، حقيقية، حارة وحميمية مع جماليات النصوص المختارة وايحاءاتها ودلالاتها الفنيَّة والمجازية. ونجاة الزباير في كتاباتها النثرية شاعرة قبل كلِّ شيء.. شاعرة مدهشة، ممتازة ذات تفرد وأصالة تبحث عن المعاني المبتكرة بلغة عذراء مغسولة بضوء الدهشة والإشراق، وتراوغ بخطى واثقة ولمسات خفيفة شعريات عربية وأجنبية متجذرة وراسخة ولها حضور ثقافي وإبداعي وإنساني كبير. فهي ناقدة رائية وتمتلك حاسة تمكنها من استشراف البعد الخفي في النص، بالإضافة إلى كونها شاعرة مغربية استثنائية ذات تجربة إبداعية مغايرة ومختلفة تحفر في أعماق اللغة، وأقاصي الأبجدية. فهي غجرية الشعر المغربي بلا منازع وأميرة القصيدة الهامسة.

الكلام المعجون بالغيم
في نص الشاعرة نجاة الزباير نتنسم عبير الكلام المعجون بالغيم ونشمُّ روائح النباتات العطرية المغربية وروائح التوابل الحارقة وتزكم أنوفنا عطور المفردات الهاطلة من فضاءات ملونة وسماوات خفيضة منبثقة من جبال وسهول وصحراء البلاد الشاسعة، كأن نص الشاعرة خلطة جميلة فيها من كلِّ العناصر والأشياء. ومن نصوصها المتوهجة برائحة الشوق وبراعمِ ناره يطلُّ علينا هذا النص المكتوب بريشة عاشقة حقيقية مقادة بعصا الشوق والحنين واللهفة "شفتاي تبتسمان رغما عني، فلتتا من أسري وتحولتا لحمامة بيضاء تلامسان قلبي بأشعة هواك. فأراني أتساقط عشقا في وريد الوقت.. أنت.. يا من تركتُ له أزرار الروح يفتحها وقتما يشاء، كي تدخل بدون استئذان.. أأنت بقربي تحاورني وتطل علي من مخدع عينيك الساحرتين؟!!! ها أنا أضحيت قصيدة هوى تسكن قلبك وأرقص على إيقاعاتها فرحا.. لتتحول حياتي لنغم لا أحد يستمتع بمثل جماله. يا أنت.. يا وردة إلهية تنثر عطرها في دمي، ويا ضوءا تشع قناديله في روحي.. ألا تعلم بأني لك وحدك وأن العالم يجتمع كله بين راحتيك حيث أردد: أهواك يا لحني الأبدي؟ دعني أهمس في وريدك بأن قلبي ينغلق على عوالمي، وتعلوه مسحة حزن لا أدري كنهها حتى أسمع صوتك القادم من عالم الحب، فأراني فراشة نورية تطير في نبض العشق وتحط فوق أهداب هواك. سأهمس في وريدك: أني عاشقة لك.. تراك تبتسم لتقول: نعم أعرف هذا... لكنك لا تعرف كيف يطرز هذا العشق ثوب وجودي بألوانه الزاهية، ولا كيف أبعث في ردائه حورية تكتب عن صلاة الحب التي تقيم تراتيلها في وجداني. فهل صادفت يوما امرأة عاشقة مثلي؟!!"

أجنحة الحب الصوفي
وفي نص آخر نحلِّق مع الشاعرة على أجنحة الحب الصوفي أو غيوم زفرات العشق الحارقة إذ تقول "يغزل الليل من مشاعري ضفائره، ينثرها بين يدي وساوسَ تنهش قلبي الهش، فأراني أهرب منها نحو بابك أطرقه. هل تسمعني؟ ألا تريد أن تفتح لهواي كي يستريح من سفره الطويل الذي أُنهِك نبضُه وهو يمر بين ثنايا رمال العمر، ليس معه غير قربة من ماء عشقك يشرب منه كلما أحرقته شمس الحنين؟ يأتيني صوتك محملا بالعطر تقول حبيبتي...، فتطير الحروف حماما زاجلا نحوك، تطل عليَّ من نافذة الروح فأرى ابتسامتك تتغلغل فيَّ، تعزف على مسمعي صوت المطر الذي أعشق، أو لستُ عاشقة المطر الضاجة من الشمس التي تضيء في قلبك؟ أنا هنا.. كي أقص عليك هذيان مساء هارب مني يتفيأ أهدابك، يطل عليك وأنت تجمع أجزاء القلب المنثورة في غيابك، فهل رأيته حين تمدد في كلماتك ثملا؟ أم تركته وحيدا مثل ساعي البريد الذي يحمل كل أشواق العشاق في حقيبته، لكنه لا يتدفأ بها لأنها ليست له؟ فيعود إلى دياره وحيدا بعد أن كانت أصوات الأوراق حية في يده، فيها صور تسكب نبيذ حيرتها في كل جهات الهوى. وبعدها تنام في درج ما، بعد أن نصبت خيامها لفراشات الوجدِ. هل رأيتها حين طارت من قلبي كي تحلق في سمائك؟ أم صددتها عنك كي لا تحط طائرات الشوق أمامك؟ حتى وإن فعلت.. ستتسلل من نوافذ روحك كي تراك"

ونجاة الزباير التي توقظ الريح من جهاتها العشر على حد تعبير الناقد الأردني رائف الريماوي هي شاعرة وناقدة صحفية من المغرب صدر لها "أقبض قدم الريح (2007) و"ديوان قصائد في ألياف الماء" (2009) و"ديوان لجسده رائحة الموتى" (2010) و"ديوان فاتن الليل" (2012) و"ديوان ناي الغريبة" (2013) و"خلاخيل الغجرية" (2014) وغيرها الكثير.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف