كتَّاب إيلاف

غزة ونظرية دورة الحرب

فلسطينيون ينزحون من مناطق شمال مدينة غزة
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الحرب الحالية على غزة بكل أبعادها ومتغيراتها الداخلية والإقليمية والدولية تجسد كل النظريات التي كتبت عن الحرب. وهي ليست الحرب الأولى، فقد سبقتها خمسة حروب منذ عام 2008، ما يعني أن كل ثلاثة أعوام شهد هذا الجزء الأصغر في العالم والأكثر كثافة سكانية حروبًا غير متكافئة بين إسرائيل كدولة قوة ومدعومة من الدولة الأكبر في العالم، الولايات المتحدة، وبين مقاومة تهدف إلى رفع الحصار وإنهاء الاحتلال. الحروب السابقة لم تحقق أهدافها السياسية، والحرب الحالية، ورغم دخولها العام الثاني، أيضًا لم تحقق أهدافها السياسية. بلغة الحرب، هذه حروب فاشلة هدفها فقط التدمير والإبادة.

خطورة الحرب الحالية أنها حولت غزة إلى منطقة غير صالحة للحياة، وهذا يبدو هدف إسرائيل من الحرب، كما يظهر من حجم التدمير والإبادة. هذا الأمر يحول غزة إلى بيئة طاردة لأبنائها، حيث إنها كانت قبل الحرب تعاني من الفقر والبطالة التي بلغت نسبتهما أكثر من خمسين بالمئة، وتعاني من الحصار الشامل بتحكم إسرائيل في كل منافذ غزة. وتقدم غزة نموذجًا صارخًا لسيادة منطق القوة، وعدم الثقة السياسية، وتراجع منظومة الأخلاق والقيم الديمقراطية، مما جعلها بيئة طاردة للحياة. الهدف الثاني لإسرائيل من تدمير غزة هو غلق ملف القضية الفلسطينية عبر تحويل الفلسطينيين إلى مجرد أناس يبحثون عن الطعام والشراب.

لقد باتت غزة في حربها الحالية تقدم نموذجًا لكل النظريات المفسرة للعلاقات الدولية، وتحولات القوة، والصراعات، والتحالفات الدولية، واتساع نطاق الحروب. كما تفتح المجال لحرب إقليمية وربما كونية، والمثال واضح في اتساع الحرب لتشمل لبنان وإيران. تسود نظرية الأمن والبقاء والدولة القومية التي تعلو على نظريات السلام والشرعية الدولية، مما يفسح المجال أمام القوة لتبرير الحرب تحت غطاء الدفاع عن النفس، أو ما يسمى من وجهة نظر أنصار الحرب بـ"الحرب العادلة".

لقد كشفت هذه الحرب غير المتكافئة وغير العادلة كل التناقضات الدولية، وضعف المنظمة الدولية بهيمنة مجلس الأمن عبر الفيتو الذي تمارسه الولايات المتحدة، وضعف الشرعية الدولية وافتقارها للقوة الحقيقية. تقدم لنا الحرب تفسيرًا لنظريات صعود القوى الإقليمية، وسعيها لامتلاك القوة مثل إيران، مما يفتح الباب أمام حروب إقليمية واسعة وشاملة قد تقود لحرب كونية. تقدم الحرب أيضًا تفسيرًا لزيادة دور الفاعلين غير الدول مثل حماس وحزب الله.

غزة اليوم تمثل وتختزل القضية الفلسطينية، وكل ما نسمعه عن العلاقة بين إسرائيل وحماس وغزة وكيف سيكون اليوم التالي. تقدم غزة التفسير التاريخي لتراجع القضية الفلسطينية في سلم الأولويات والأجندات العربية والإقليمية والدولية بسبب غلبة المشاكل والتحديات التي تواجه دول المنطقة والنظام العربي ككل.

الأهم أن غزة في حربها تقدم لنا إشكالية العلاقة بين نظرية التفاوض والسلام ونظرية المقاومة كوسيلة لتحرير فلسطين وإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية. ومن قبل قدمت لنا غزة نظرية الانقسام السياسي الفلسطيني بين حركة فتح كحركة علمانية وحماس كحركة دينية مرجعيتها الإخوان المسلمون، وإشكالية العلاقة بين المشروع القومي والمشروع الإسلامي.

إقرأ أيضاً: حروب الكبار

برغم صغر مساحتها وكثافة سكانها الذين يزيدون عن مليوني نسمة، ومع هذه الحرب استشهد أكثر من خمسين ألف فلسطيني، وفقد أكثر من مئة ألف القدرة على الحياة، وهجر أكثر من مئتي ألف، وما زالت الأرقام في صعود. غزة تقدم اليوم ركيزتي معادلة الصراع والحرب والسلام بين إسرائيل والمقاومة التي تقودها حماس. العلاقة بين الطرفين تقوم على النفي والرفض وعدم القبول، وتغلب خيار الحرب لأن كل طرف يسعى للتخلص من الآخر، وهو خيار مستحيل، مما يعني استمرار نظرية الصراع والحرب إذا لم يتم قيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، حتى يتم نزع مبررات الحرب والمقاومة.

المقاومة تتحدث عن نهاية إسرائيل والتحرر الكامل، وإسرائيل تتحدث اليوم عن نزع كامل لسلاح المقاومة وتحويلها إلى مجرد هيكل تنظيمي بلا مضمون وتابع. تثير غزة أيضًا نظرية التمثيل والشرعية الفلسطينية، وهل ما زالت منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.

إقرأ أيضاً: حرب غزة والخيار الشمشوني

في غزة تلتقي كل القوى الإقليمية والدولية وتعكس الصراع بين شرعية القوة وقوة الشرعية. وحتى كتابة هذه المقالة، هناك أكثر من خمسين ألف شهيد وتدمير أكثر من ثمانين بالمئة من منازل غزة، وتدمير كامل لبنيتها التحتية، وكل هذه مؤشرات على صعوبة الحياة بعد الحرب، والحاجة لعقود لإعادة بناء غزة. والبناء هنا ليس بناء المنازل فقط، بل بناء الإنسان. وهنا تبرز نظرية أي غزة جديدة وأي إنسان جديد فيها. ويبقى أنه لا يعقل وليس من المقبول أن يكون قدر غزة الحرب والحصار. في كل مرة نتحدث عن الإعمار، وهذه معادلة غير صحية؛ لأنه لا إعمار مع الحرب والحصار، ومن شأن هذا أن يدفع أهل غزة للبحث عن ملاذات آمنة.

الحرب ليست هدفًا ولا غاية في حد ذاتها. الخيار الوحيد هو إعادة بناء غزة المدنية التي تركز على نظريات التنمية المستدامة، وكيف تصبح جزءًا من شرعيتها الفلسطينية الكاملة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف