ترقى الحرب على غزة إلى مرتبة الحروب الكلية الشاملة، ويمكن مقارنتها بالحروب الكونية بأطرافها وفواعلها وتداعياتها. فالحرب على غزة لا تقتصر على إسرائيل وحماس وحدهما، بل تتعدى ذلك لتشكل تدخلاً مباشراً فيها من قبل الولايات المتحدة كقوة كونية أحادية، إلى جانب تدخل قوى إقليمية مختلفة، فضلاً عن تفعيل دور الفواعل من غير الدول، إلى جانب الحراك الطلابي الذى يعم كل الجامعات الأميركية والأوروبية، ويترافق مع مسيرات شعبية تشهدها الكثير من الدول.
إنَّ ما تقدم يجعلنا أمام أنموذج استثنائيّ لحرب لا تكافؤ بين طرفيها الرئيسيين، أي إسرائيل وحماس، مما يعنى أن تداعياتها قد تدخلنا في سيناريو "الخيار الشمشوني"، فهي من أنواع الحروب التي يصعب أن تنتهي بالنصر المطلق، حيث لم تُحسم بعد بالرغم من مرور أكثر من سبعة أشهر على اندلاعها، بالرغم من أنها خلفت عدداً غير مسبوق من الضحايا المدنييين الذين سقطوا في غزة، والذي يزيد عن أربعين ألفاً، إلى جانب أكثر من مئة ألف جريح ومعاق باتوا أقرب إلى الموتى، فضلاً عن التدمير الشامل للبنية التحتية الضعيفة أصلاً، وتدمير أكثر من سبعين بالمئة من منازل قطاع غزة، ليجد أكثر من مليوني نسمة أنفسهم يعيشون في العراء وبلا غطاء إنساني. وبالرغم من كل ذلك، لم تنجح إسرائيل في تحقيق الأهداف المعلنة من الحرب.
ما علاقة الخيار الشمشوني بهذه الحرب؟ لو عدنا إلى عملية "طوفان الأقصى"، لوجدنا أنَّها مست هيبة إسرائيل، لترد بمحاولة هدم المعبد على رؤوس الجميع. والسؤال هل من علاقة بين الحرب وخيار شمشون الجبار؟ الإجابة على السؤال لن تقتصر على إسرائيل فقط، بل قد تشمل أيضاً حماس. فإسرائيل لن تسمح لحماس أن تنتصر وتحقق ما تريد، لأن هذا يعني نهاية إسرائيل. في المقابل، لن تسمح حماس لإسرائيل أن تنتصر بما تملكه من أوراق قوة أهمها العمليات الفردية التي تتسبب بانهيار المعبد على الجميع. والصورة الثالثة للخيار الشمشوني مشاركة جماعات أخرى في الحرب، على غرار الحوثيين وغيرهم، وقد يجر ذلك مشاركة أوسع تدخل الجميع في دائرة هذا الخيار.
لكن ما أوجه الشبه أو القواسم المشتركة بين حرب غزة وخيار شمشون؟ البداية في غرور القوة، وعدم النظر إلى الواقع برؤية سليمة، فلا إسرائيل يمكنها القضاء على حماس واقتلاع المقاومة الفلسطينية من جذورها، ولن يأتي اليوم الذي تعلن فيه حماس استسلامها. لكن حماس في المقابل ليست قادرة ولن تقدر على هزيمة إسرائيل بكل قوتها، ولن يُسمح لحركة أو لفصيل مسلح بتحقيق هذا الهدف. ومع افتراض أو تخيل حدوث ذلك، فلا شيء يمنع إسرائيل حينها من اللجوء إلى قدراتها النووية، التى تهدم المعبد على رؤوس الجميع.
بالرغم من مرور أكثر من سبعة أشهر على بداية هذه الحرب، ما زال غرور القوة الإسرائيلية طاغياً ومسيطراً يعبر عن نفسه بالتدمير والقتل دون اعتبار لطفل أو مسن، وفي الوقت ذاته، ما زالت حماس والمقاومة مستمرة بإطلاق ما تبقى من صواريخ في ترسانتها، كرسالة على عدم الاستسلام أو القبول بما تفرضه إسرائيل لليوم التالي للحرب بدون حماس. والمفارقة في هذا الخيار هو الثمن الباهظ الذي يتحمله أكثر من مليوني فلسطيني في غزة ينزحون من مكان إلى آخر داخل مساحة لم تعد قادرة على استيعابهم، وهم من يتحملون حتى اللحظة خيار هدم المعبد.
إقرأ أيضاً: الأمم المتحدة والاعتراف بدولة فلسطين
لقد فقدت إسرائيل بصيرتها وأعماها غرور القوة، ولم تعد ترى إلا الدمار والقتل، وترفض درس الأسباب الموجبة التي فرضت الحرب، وترفض كل الحلول السياسية وأي تسوية تفاوضية قائمة، مدعية أنها لم تحقق هدفها بالقضاء على حماس. أمَّا حماس، ولها من جانبها الحق في ذلك، فترفض الهدنة المؤقتة وتطالب بوقف كامل للحرب، الأمر الذي تعتبره إسرائيل هزيمة، إذ أنَّ عودة حماس إلى الحكم تعني من وجهة نظر إسرائيل هزيمة لها ونصراً للأولى، وهذا السيناريو مستبعد تماماً.
لقد خلقت الحرب بيئة سياسيَّة جديدة لا يمكن أن تعود معها غزة كما كانت في السابق، ولا يمكن تصور أن تعود حماس إلى الحكم، وتنخرط ثانية في تطوير قدراتها العسكرية، ولا يمكن في الوقت ذاته قبول عودة إسرائيل لاحتلال غزة من جديد، لأنَّ هذا الوضع يقرب الجميع من خيار شمشون، أي استمرار الحرب بدرجاتها وأشكالها المختلفة، ولعل الذى يقوي من خيار شمشون أنَّ إسرائيل تعيش في قلب الأراضي الفلسطينية بما فيها غزة، في حين أنَّ حماس والشعب الفلسطيني يعيش في قلب إسرائيل ذاتها، وهذا من شأنه أن يوفر كل الظروف المناسبة لهدم المعبد على رؤوس أصحابه.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وإيران وخيار الحرب الشاملة
مشكلة إسرائيل أنها لم تقدر حجم التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني، ولعل أخطر ما يدفع في اتجاه التسريع بخيار شمشون حالة الكراهية والحقد والرغبة في الثأر والقتل لدى الطرفين، ناهيك عن الأيدولوجية العمياء التي تحكم الحزب الحاكم في إسرائيل، وحالة التسليح الشاملة، وهذا يوفر البيئة القوية لشمشون الذي سيهدم المعبد في عمل انتحاري صرف. واليوم، قادة إسرائيل معرضون لصدور أحكام ضدهم بالإعتقال، والأمر ليس قاصراً عليهم بل سيشمل قادة حماس وغيرهم، وهذا من شأنه أن يضع الجميع أمام هذا الخيار. وقد يزيد من هذا الخيار الدور الذي يلعبه الدين وتحكمه في السياسة. إنَّّها حرب تحكمها السياسة والدين، على ما يقول ابن خلدون: إن الفهم المغلوط للسياسة يجعل من السياسي مستبداً، والفهم المملؤ بالغلو لرجل الدين يجعله محرضاً على التكفير، وكلاهما يصنعان الدمار ويهددان العمران. وأيضاً قول ونستون تشرشل: أحذروا أن يشعلها رجل دين حتى ينفذها رجل سياسة.
التعليقات